باسم الأنصار
(العراق)

باسم الأنصارحينما كتب الشاعر الفرنسي (برتران) مجموعة قصائده النثرية اليتيمة (غاسبار الليل)، لم يكن يعلم بأنه من الممكن أن يُكتب الشعر من دون أوزان جاهزة، ولهذا فهو ربما لجأ إلى النثر لتفريغ شحناته الشعرية المنفلتة من قيود تلك الأوزان. أي بمعنى، أنه لم يفكر بالخروج والتمرد على قصيدة التفعيلة في شكلها المعروف في زمنه حينما كتب قصائده النثرية. أي أن وعيه الشعري لم يسعفه في اكتشاف الشعر المتحرر من الأوزان في السياق الشعري الخالص، لذلك راح يبحث عنه في سياق النثر العام. وسقط (بودلير) بالقصور ذاته، حينما لجأ إلى النثر لكتابة شحناته الشعرية الثرية التي لاتقبل التأطير في أطار الأوزان الشعرية التي كان يسير على منوالها. أي أن (بودلير) لم يكن يعلم بأنه كان بالإمكان كتابة الشعر الموسيقي اللاموزون ضمن سياق الشعر الخالص ومن دون الحاجة إلى اللجوء إلى النثر، مثلما صنع الشاعر الأمريكي (والت ويتمان) حينما كتب تنهداته الشعرية المنفلتة من الأوزان (أوراق العشب) ضمن أطار الشعر وليس النثر . بحيث صار (ويتمان) الرائد الاول للقصيدة الحرة التي ظهرت نتيجة تمردها على قصيدة التفعيلة.
ولكن هل أن عدم اكتشاف بودلير مثلا القصيدة المتحررة من الأوزان والمتمثلة (بالقصيدة الحرة) هو السبب الوحيد أو الدافع الحقيقي الذي دفعه لكتابة قصيدة النثر؟ وكيف سيكون الحال، لو افترضنا مثلا أن (بودلير) قد توصل إلى قناعة (ويتمان) في كتابة القصيدة الحرة، فهل ان هذه القناعة ستغير من رغبته في كتابة قصيدة النثر؟
الإجابة على السؤال الاول برأينا ستكون : لا. بينما أجابتنا على السؤال الثاني ستكون : نعم.
وذلك لان بودلير لجأ إلى قصيدة النثر ليس هربا من قيود الأوزان فقط، وإنما لأنه أكتشف أمكانية استخراج الشعر من السياق النثري (وهذا مانعتقد أنه السبب الدفين من قبل بودلير في كتابته لقصيدة النثر). أي أن الهرب من الأوزان كان الحجة الظاهرة لكتابة قصيدة النثر، بينما الحجة أو الدافع الحقيقي لكتابتها هو قدرة النثر على إنجاب القصيدة.
والشئ الذي يرسخ قناعتنا هذه هو أن بودلير لم يقصد في كتابته لقصيدة النثر، التخلي عن قصيدة التفعيلة التي كان يكتبها وكتبها في مجموعته الشهيرة (أزهار الشر). وهذا يعني أن قصيدة النثر لم تظهر نتيجة تمردها على قصيدة التفعيلة، مثلما حدث مع القصيدة الحرة، وإنما للسبب الذي ذكرناه قبل قليل.
فقصيدة النثر باختصار لاتنتمي إلى السياق الشعري الخالص، وإنما هي تنتمي بالأساس إلى السياق العام للنثر أولا وللسياق الشعري العام ثانيا، بفعل إدخال الأدوات الشعرية الأساسية عليها. وأيضا يمكننا القول ان قصيدة النثر ليست مزجا بين الشعر والنثر كما يعتقد البعض، وإنما هي خارج هذه المعادلة تماما، على اعتبار أن المزج بين الشعر والنثر يؤدي بنا إلى مايسمى (بالنص المفتوح).
قصيدة النثر باختصار، هي نثر غايته الشعر.
سأوضح الأمر بطريقة أخرى : حينما نتحدث عن الشعر العمودي الكلاسيكي، فإننا لانتذكر شعريته فقط، وإنما نتذكر الأوزان التي تتحكم به. لذا حينما برزت الحاجة إلى قصيدة التفعيلة، فأن هذه الحاجة أتت من خلال رغبة الشاعر بالخروج عن قوانين الأوزان التقليدية. أي أن قصيدالنثر،يلة نتجت بسبب جدلها مع القصيدة العمودية. وهذا الحال ينطبق على القصيدة الحرة، التي نتجت من حاجة الشاعر إلى الخروج على أوزان قصيدة التفعيلة المعروفة، أي انها ظهرت نتيجة جدلها مع قصيدة التفعيلة.
أما قصيدة النثر، فأن بروزها إلى الساحة الشعرية لم يكن نتاج جدلها مع القصيدة الحرة ولا مع قصيدة التفعيلة ولا مع القصيدة العمودية، وإنما هي نتجت بسبب رغبة الشاعر في استخراج الشعر من سياق النثر. أي ان قصيدة النثر، تجربة شعرية متنوعة ومتحررة آتية من سياق آخر غير السياق الشعري المتعارف عليه.
ولهذا السبب، أحتفظ الشعراء الفرنسيين والأوربيين والأمريكيين فيما بعد على القوانين الأساسية لقصيدة النثر في كتابتهم لها على الرغم من مرور أكثر من مئة عام على ظهورها. أي أنهم لم يتجاوزوا شروطها الأساسية لكتابتها إلا وهي (الاختزال، التكثيف، اللاغرضية، وشكلها المقطعي).
وحينما حاول البعض منهم إضافة بعض اللمسات الفنية عليها، فأنهم لم يفكروا بتحطيم شروطها الأساسية المذكورة أعلاه، وإنما فكروا بأجراء بعض الإضافات على الشروط الأخرى التي تتحكم بها. ولهذا ظهرت لنا أشكال وأساليب جديدة في كتابتها ودُبجت تحت تسميات مختلفة مثل (قصيدة النثر السريالية، قصيدة النثر المفتوحة، قصيدة النثر التكعيبية).
فعدم خروج شعراء فرنسا وأمريكا مثلا (وهم روادها القدماء والحديثين) على شروط قصيدة النثر الأساسية ليس نابعا من عدم ديناميكتهم، وإنما نابع من أيمانهم بأن الخروج عليها معناه خلق نص شعري مغاير ومختلف عن قصيدة النثر، وبالتالي يتحتم عليهم أطلاق تسمية أخرى على هذا النص، غير تسمية قصيدة النثر.
وإذا انتقلنا إلى التجربة العربية في كتابة قصيدة النثر فأننا نرى أن بعض الشعراء العرب البارزين، ألتزم بالقوانين الأساسية المتحكمة بقصيدة النثر بحكم استيعابهم لها بشكل صحيح، ولكن الغالب الأعم من الشعراء العرب لم يلتزم بهذه القوانين، ليس رغبة منهم بالتمرد على الشكل الأساسي لها، أو رغبة منهم بأجراء الإضافات عليها، وإنما بسبب سوء فهمهم لشروط قصيدة النثر. فصار البعض منهم مثلا يشيع مصطلح (قصيدة النثر المشطرة) وهو مصطلح (مع اعتزللمغايرة.رنا لمن أطلق هذه التسمية) ليس تمرديا أو نابعا من رغبة حقيقية لخلق خصوصية عربية في كتابة قصيدة النثر. فهذا المصطلح ظهر بعد أن كتب الكثير من الشعراء العرب قصيدة النثر بشكل خاطئ. أي أنهم كتبوا قصيدة النثر على طريقة الشطر بسبب سوء فهمهم لها وليس حبا منهم للمغايرة. ومن أطلق هذه التسمية كان يريد أن يغطي على تنظيراته الخاطئة بعد أن أكتشف خطأها، ولكنشيئين:رح بذلك لأسباب لا علم لنا بها.
فكل من يفكر بالتمرد على حالة ما موجودة من اجل خلق المغاير والمختلف عليه أن يوضح لنا شيئين :
الاول : لماذا يتمرد على الشكل السائد؟
والثاني : ماهي الإضافة التي يريد أضافتها على الشكل السائد؟
وكذلك هناك نقطة أخرى في غاية الأهمية مرتبطة بنفس القضية، ألا وهي أن من يتمرد على شكل فني أو شعري ما عليه أن يستوعب أولا حد التخمة هذا الشكل الفني أو الشعري قبل أن يتمرد عليه. والسؤال يبرز هنا تلقائيا: هل أن الشعراء العرب هضموا وكتبوا قصيدة النثر بشكلها المتعارف عليه في أوربا وأمريكا حد التخمة لكي يظهر لديهم مبرر التمرد عليها؟ وهل أن خروجهم على قوانين قصيدة النثر الأساسية نابعة من رغبة حقيقية لخلق شكل مغاير لها أم انه تمرد ناتج من سوء الفهم لها؟
نحن نظن بأن قصيدة النثر العربية المشطرة خاطئة لأنها خرجت أولا على واحد من أهم شروط قصيدة النثر، ألا وهو شرط شكلها المقطعي، وهو شرط لم ينتج اعتباطا ولم يوضع لكي يتميز بشكله عن شكل قصيدة التفعيلة في زمن نشوءها فقط، وإنما هو شرط نابع من طبيعة شكل النصوص النثرية الذي تنتمي إليه قصيدة النثر.
وكذلك هي خاطئة بسبب نسيانها دوافع التشطير في الشعر. فتشطير القصيدة، يعني وجود إيقاع وموسيقى داخلية أو خارجية مفروضة عليها من قبل النظام الذي تكتب به (كقصيدة التفعيلة) وأحيانا من قبل الشاعر الذي يكتبها (كالقصيدة الحرة). بمعنى أن حجم وشكل الشطر الشعري يتبع شروط الأسلوب الشعري الذي تُكتب به.
ولهذا نقول بأن بناء الجملة في القصيدة الحرة أو شكلها العام لم يظهر اعتباطا بشكلها المشطر. فعلى الرغم من أن شكل القصيدة الحرة لايتبع الأوزان المعروفة، إلا أن هندستها بالشكل المشطر ظهر بسبب الإيقاع أو الموسيقى الشعرية التي تملى على الشاعر من أعماقه في لحظة كتابته، وهي إيقاعات مستمدة بالأساس من مزاجه النفسي والذاتي ومن المزاج العام الموضوعي المحيط به، أي من طبيعة حركة وإيقاع الحياة المحيطة بالشاعر، غير أن الفرق بينها وبين إيقاعات قصيدة التفعيلة، أن الأولى تكتب من دون إطار محدد مسبقا لموسيقاها وإيقاعاتها، بينما الثانية تُكتب حسب أطر إيقاعية مسبقة وثابتة. ومن يدري ربما سيظهر لنا (فراهيدي) آخر في زمن ما، ويحدد للشعراء طبيعة الإيقاعات التي كتب على غرارها شعراء القصيدة الحرة.
والشئ الآخر الذي يدعونا للتحفظ على قصيدة النثر العربية المشطرة، هو تجاوزها على الشكل العام للقصيدة الحرة ولقصيدة التفعيلة أيضا. فلايجوز مثلا أن نقول عن القصيدة العمودية بأنها قصيدة تفعيلة سيّابية مثلا، وكذلك لايجوز أن نقول عن القصيدة السيّابية أنها قصيدة حرة، مثلما لايجوز أن نقول عن قصيدة التفعيلة أنها قصيدة نثر، وهكذا. فلكل هذه الأشكال الشعرية شروطها وقوانينها الأساسية التي خلقتها ومن ثم خلقت تسمياتها.
أن مايكتبه الشعراء العرب بشكل عام هو القصيدة الحرة وهو النمط الشائع الآن تقريبا في أوربا وأمريكا وربما في العالم. ولكن تسميتهم لهذا النوع الشعري خاطئ. ففي غالب الأحيان يطلقون هذا المصطلح على قصيدة التفعيلة، وأحيانا أخرى يطلقون مصطلح قصيدة النثر على القصيدة الحرة، إلى الحد الذي أوصلنا إلى عدم تناول مصطلح القصيدة الحرة في الشعر العربي المعاصر مع أن الكثير منه ينتمي إلى سياقها.
قد يظن البعض أن قضية التسمية والمصطلحات ليس لها أية أهمية تذكر، بل وليس لها أية علاقة بشعرية النص الشعري. ونحن نقول أن هذا التصور خاطئ أيضا. لأننا حينما نكتب قصيدة نثر، فأنه سيتبادر إلى أذهاننا أن بناء الجملة فيها وبناءها العام هو بناء نثريا، أي أن اللغة المستخدمة فيها في الغالب وليست دائما لكي نتوخى الدقة في الكلام، هي لغة نثرية بالأساس أكثر مماهي لغة شعرية. بينما لغة القصيدة العمودية والتفعيلة والحرة، هي لغة شعرية بالأساس ونثرية أحيانا قليلة. ولهذا فحينما يكتب البعض قصيدة حرة بلغة غير لغتها، أي بلغة قصيدة النثر مثلا، فأنه يُحدث خللا لايستهان به في شعرية القصيدة الحرة، وهنا مكمن الإساءة إلى الشعر بشكل عام.
حينما يكتب شاعر ما اعتقادا منه بأن قصيدة النثر هي الشكل الأخير للشعر (وهي ليست كذلك طبعا)، ولاعتقاده بأنها نتاج السياق الشعري الخالص فأنه سيكتب الشعر وخصوصا القصيدة الحرة بلغة النثر أكثر مما يكتبها بلغة الشعر. أي انه سيجعل الجملة وسيلة توصله إلى الصورة الشعرية، أكثر مماهي كائن مستقل يمكن استخراج السؤال والرؤى والتصورات الشعرية منها.
الشئ الذي نود قوله أن الخلط بالتسميات للأشكال الشعرية ليس هينا وليس عابرا، لأنه يؤثر بشكل أو بآخر على شعرية القصيدة. فقصيدة النثر ليست الشكل الأخير للشعر، وإنما برأينا أن (القصيدة الحرة) هي الشكل الشعري الأخير النابع من السياق الشعري الخالص.
وحتى هذه اللحظة فأن الكثير من شعراء أوربا وأمريكا والعالم يكتبون القصيدة الحرة بالدرجة الأساس على اعتبار انها الشكل أو القالب الأخير في كتابة القصيدة الشعرية الذي يناسب إيقاع العصر وموسيقاه ويناسب مزاج الشاعر النفسي في الوقت ذاته. بينما تأتي كتابتهم لقصيدة النثر لأنها تستوعب شحناتهم الشعرية الانفعالية المتشكلة على هيئة النثر في أعماقهم وليس على هيئة الشعر المعروفة.
فكما هو معروف أن النثر سلسلة متواصلة من الجمل، وهذه السلسلة تكون مترابطة عبر أدوات النثر المألوفة، بينما جمل الشعر المشطرة غير مترابطة أو متواصلة بطريقة النثر، على الرغم من ترابطها وتواصلها الظاهر والباطن. وسبب اختلاف شكل الشعر عن شكل النثر برأينا هو بسبب أن الاول شعر، وأن الثاني نثر. أي أن سبب اختلاف الشعر عن النثر، ليس بسبب تحكم الأوزان التقليدية به، وإنما لأنه شعر قبل كل شئ. والشعر، لايختزل بالأوزان والإيقاعات، وإنما هو اكبر وأوسع من هذا الجانب. ومن هذا المنطلق نقول ان الشعر يكمن في كل شئ في الوجود، بما فيه النثر.
الشئ الذي نود قوله أن قصيدة النثر بالأساس لم تظهر لكي تزيح شكلا شعريا سابقا لها، وإنما ظهرت لكي تصبح إضافة فنية راقية للأشكال الشعرية السائدة، كالإضافة الشعرية الجميلة التي ستنتشر بالمستقبل أكثر من قبل والمتمثلة (بالنص المفتوح) أو (النص متعدد الأجناس) كما يحلو لنا التعبير عنه. حينذاك سنجد أن الشعراء سينشغلون بهذا النوع الكتابي أيضا وسينشغلون بالتنظير للشعرية الكامنة فيه، وهي موجودة طبعا، ولكن ليس ليثبتوا بأنه الشكل الشعري الأخير لأنها ليست كذلك برأينا، وإنما لان النص المفتوح سيكون مؤهلا لاستيعاب الشحنات الشعرية والنثرية أكثر مما تستوعبه قصيدة النثر أو القصيدة الحرة، مثلما لايستوعب النص المفتوح الشحنات الشعرية لقصيدة النثر وللقصيدة الحرة. ومن هنا نصل إلى قناعة ان ضرورة قصيدة النثر نابعة كونها تستطيع استيعاب الشحنات الشعرية الكامنة في أعماق الشاعر التي لاتستطيع استيعابها القصيدة الحرة، مثلما لاتستطيع قصيدة النثر استيعاب الشحنات الشعرية التي تستوعبها القصيدة الحرة.
فالعلاقة بين قصيدة النثر والقصيدة الحرة، علاقة قائمة على المودة والصداقة وليس على النزاع والصراع، لسبب بسيط جدا هو لأنهما يسيران بخطين متجاورين وليس متصادمين. إذن لندعهما هكذا ولنبعد عنهما شروط الصراع لان الشعر لايصارع نفسه ليقهرها وإنما ليجعلها تتوهج أكثر فأكثر كتوهج النار في المواقد القديمة.

basimalansar@hotmail.com


إقرأ أيضاً: