عوني كرومي، المخرج والمنظّر والكاتب وصاحب الرؤيا السينوغرافية، كرومي، أحد كبار المسرح العراقي رحل عن 61 عاماً، مخلفاً عشرات الأعمال المسرحية، المتنوعة التجريب، الخصبة التعدد، المفتوحة المشاريع والورش والتنقيب. رحل كرومي، العراقي الصرف، بانتمائه الى أرضه ووطنه وشعبه، مات بعيداً عن العراق. في المنفى؟ بل في المنافي. كان يحمل شغفه بالوطن وبالمسرح وبالإنسان، ويترحل بين المدن العربية والأوروبية، بحثاً عن مكان يحقق فيه مشاريعه، ورؤاه، وأفكاره، ومواقفه، وحتى "نظرياته" المفتوحة، بلا تقنين، ولا تعصب ولا انغلاق. هكذا، كان عوني كرومي كأنه حلم مسرحي يمشي الى حلم مسرحي. كل تجربة تؤدي الى أخرى مختلفة ونقيضة. حتى التنظيرات التي وضعها، كانت تخرج من الورش والنصوص والأعمال. كانت طالعة من المادة ومن النهج ومن مجمل علاقة المسرح بنفسه، وبالممثلين، والجمهور. عندما كنت تلتقيه في عاصمة من العواصم العربية أو في بيروت، كنت تتكهن سلفاً أنه سيفيض عليك بمشاريعه، اسمع يا صديقي هكذا كان يبدأ: عندي فكرة مسرحية كتبتها عن كذا... وكذا. وما إن ينتهي من فكرة حتى ينتقل الى أخرى وهكذا دواليك. دائماً "أسير" تجاربه. دائماً أسير المستقبل. قلما يتكلم عن إنجازاته السابقة "المهم يا صديقي ما سوف نعمل. ما سوف نجرب. وكيف سنجرب. وما هي الأدوات والمواد التجريبية. وكيف الشغل على الممثل، والأهم، كيف سنتجاوز ما حققناه. فكرة التجاوز راودته كصوته، وكطفولته الدائمة، وهمومه؛ كيف لا نستنقع في ذواتنا، كيف لا نقع في تجاربنا فنكررها نجترها. أي كيف نصل بالتجارب الى أقصى احتمالاتها. هكذا كان عوني كرومي. كما انه مسرحي بامتياز، كائن درامي بامتياز. يرى المسرح في كل شيء. في كل نص. في كل مادة سينوغرافية. في الحواس. لم يسقط في التنظيرات الايديولوجية أو التراثية أو الفولكلورية، ولم يلتزم منهجاً واحداً، ومدرسة واحدة. استفاد من البرشتية في "الرجل الطيب"، واستفاد من اتجاه "المسرح خارج المسرح" في "ترنيمة الكرسي الهزاز" وتعامل مع التقنيات الحديثة بحس رفيع في العديد من أعماله "طريق الحرير" و"الطريق الأخير"، كما ركز على مسرح الصورة، لكن من دون أن يجعلها العنصر الطاغي، أو الأوحد، على حساب الممثل والنص والإخراج. المسرح صورة في ذاته. كان يقول. وعندما نستخدم الأدوات السينوغرافية، من تقنيات وإضاءة وموسيقى وألوان وماكياج، فعلينا أن ننتبه الى أن هذه الأدوات تستنبط من النص، ومن الرؤيا الإخراجية، وليس العكس. حتى مسرح الجسد المتصل أساساً بالحركة، والرقص، والإيقاعات المتعددة، فيجب أن يكون مرتبطاً أولاً وأخيراً بحضور الممثل، بالشغل على الممثل، فلا يقع المسرح في البهرجة "الجسدية" أو في الخواء الجمالي، بحيث يصير مصمم الرقص أو الحركة هو المخرج. بمعنى آخر التمسك بالعناصر الأساسية المكوّنة للمسرح: النص، الممثل، والمخرج، لتخدم كل العناصر الممثل: بؤرة الدراما المسرحية والمركز الذي يصب فيه كل أداة من أدوات المسرح، فمن دون الممثل يموت الديكور، وتنعطب الإضاءة. ويذبل الجسد، وينعدم المسرح ذاته، تصبح كل هذه الأشياء مجرد أشياء ميتة، أو ديكورات بلا دور سوى الدور الزخرفي. وهذا يعني ان عوني كرومي كان على امتداد تجاربه المسرحية في صميم الفعل المسرحي. في صميم الفكرة الدرامية. وعندما نتكلم على هذه التوجهات البنائية عنده، فهذا لا بد من أن يقودنا، الى مفهوم كرومي حول دور المسرح. وفي هذا السياق، نجد في أعماله كلها، ان هذه التقنيات وحتى المسرح كفن، هو في النهاية جزء من الصراع الاجتماعي. جزء من أدوات المجتمع المدني. جزء من النضال اليومي ضد الاستبداد، والظلم، والفقر، والتخلف، والظواهر الطائفية المتطرفة، والقمع، والتسلط. وفي هذا كان عوني كرومي في قلب الحدث السياسي، والاجتماعي، والإنساني. فالمسرح للإنسان وليس الانسان للمسرح. ونلمس هذه الجوانب في أعماله ومن أبرزها "الانسان الطيب" و"صراخ الصمت الآخر"، "الصمت والذئاب"، "أنتيجونا"، "السيد والعبد"، و"منطقة الخطر" و"كاليغولا" و"فوق رصيف الرقص"، "السيد والعبد"... بمعنى آخر، لا يمكن أن يكون المسرح بالنسبة الى كرومي مجرد وسيلة ترفيهية، أو "تحفة" تزويقية، أو أداة في يد السلطة، أي سلطة، دينية كانت أم حزبية، أو عائلية، أو عسكرية... المسرح دور. وانتماء. وانخراط في المعنى الفكري والسياسي. لكن هذا لا يعني، ومن خلال شعارات ما، ووظائف ما، وسهولة ما، وتنازلات ما، وارتهانات ما، وحسابات ربح وخسارة، و"جمهور عايز كده"، أن يتحوّل المسرح بوقاً، أو إعلاناً، أو بروباجندا. بمعنى ان يقدم العمل، وأياً كان توجهه، في إطار الإبداع المسرحي. في إطار المسرح الطليعي. في إطار بعيد من الشعبوية الفنية. أي مسرح. يبحث عن نفسه. يبحث عن جديده. ومن خلال هذا البحث ومن ضمن متطلبات الفكرة، محاولة إيجاد الشكل والفضاءات المسرحية المتجددة، والمتجاوزة. فالتزام الأفكار السائدة أو المطروحة لا يعني التزام الأشكال السائدة. بل على العكس: اجتراح احتمالات التجديد عبر التجريب. أي عبر التنقيب عن أفكار وتصورات طازجة، غير مسبوقة، فلا مسرح شعارات. ولا مسرح مباشرة. ولا مسرح سهولة. المسرح الذي يختار القضية، أي قضية، يجب ألا ينسى أنه أيضاً القضية داخل القضية. أي اللغة التي تعبّر عن هذه القضية أو تلك، بهاجس الاختراق والاجتراح وكسر التابوات والبيانات والنظريات الجاهزة.
والمتتبع لأبحاثه المسرحية، من أكاديمية وسواها، يكتشف عن هذه الاتجاهات "الميدانية" أي الأسس النظرية والمقاربات بأدواتها ولغاتها، التي يمكن أن تغذي الفن، ويغذيها النص (ككل) في حوار لا ينتهي، وعلى مساحة من المغامرة لا تنتهي، فمن أطروحاته "الاغتراب في المسرح العربي"، و"فن التمثيل" و"الحركة لغة" و"فن التمثيل"، و"روبرتو شوللي وفرقة مسرح الرور"، و"وظيفة المخرج في المسرح"، و"غروتوفسكي والمسرح الفقير وسواها، إنما تنم عن اتساع اهتمامه، وعن خصب تعدده، وعن هذا الانفتاح الرحب في التعامل مع الظواهر والمسائل المسرحية، بقدر كبير من العلمية، والدقة، والصدقية.
هذا الفنان الكبير، فقدناه. ولا ما يعوض في هذا الجفاف الكبير الذي نعيشه. فقدنا شغوفاً بالمسرح. وانساناً طيباً طيباً، وطفلاً أبدياً. فكأننا بتنا في زمن فقد الكبار: أمس رحل الفريد فرج، واليوم عوني كرومي، وبين الاثنان جنون بلا حدود بالمسرح والناس. وعندما تتعرّف عن كثب على عوني كرومي، لا تكتشف مسرحياً كبيراً فقط، ولا عراقياً صرفاً فقط، ولا عروبياً متفتحاً، ولا انسانياً غير محدود فقط، ولا مهووساً بالثقافة ودورها فحسب بل، والى كل ذلك، ذلك القلب الصافي، الدافئ، الواسعة، المحبة، والواضح. تفقد رجل مسرح كبيراً، وتفقد صديقاً كبيراً، ورفيقاً كبيراً رافقته ورافقك أكثر من ربع قرن، في المسرح والصداقة، من بغداد الى دمشق الى القاهرة الى عمان، الى الكويت وقطر... وكنت، ما إن تتلقى دعوة الى مهرجان، حتى تتمنى أن يكون عوني بين المدعوين، وتلقاه، وآه، للدفء، وآه للطفولة المتدفقة من عينيه ووجنتيه، وصوته، وضحكته، وكلماته.
مات هناك. وهناك تعني أي منفى. وقد تكون برلين. أو أي مدينة عربية. أو أي بقعة خارج وطنه العراق. ذلك أن المنافي بقدر ما تتسع للبعاد تتسع للذاكرة. وبقدر ما تتسع للغربة تتسع للحنين. وبقدر ما تتسع للقهر تتسع لحب الوطن. وهكذا كان عوني كرومي المنفي بلا أوراق سوى أوراق الرافدين، وبلا هوية سوى هوية من تراب العراق، وناسه، وأنهره، ونخيله، وبغداده، وبصراه...
رحل وربما أعمق من غصة الرحيل في جسده، غصة ألا يتلمس جسده، قبل انطفائه، ضوءاً من شمس العراق، ولا قطرة من ماء دجلة، ولا جبهة حنوناً من جباه ناسه.
هكذا غادر موته، كما غادر منفاه. وكأنه غادر حياته، ليعود، ولو في ذلك الحلم الحجري، الى هواء بلاده.
فسلاماً يا أخي ويا صديقي ويا رفيقي. سنستفقدك كثيراً، كثيراً، وسأحن كثيراً الى تلك الطفولة الناضحة منك، الى تلك الرفقة، وتلك الأحاديث التي كنا نتبادلها، وكأننا نتبادل كل مرة... الوداعات!
المستقبل - الثلاثاء 30 أيار 2006 -
البروفيسور عوني كرومي واحد من ابرز المسرحيين العرب قدم الكثير من الأعمال المسرحية في "بغداد" و"اربد" و"دمشق" و"جامعة همبولدت" في برلين " و"مسقط".
نال العديد من الجوائز وشهادات التقدير من مهرجانات كبرى بدأ تجربته المسرحية عام 1961 عندما درس الإخراج المسرحي في معهد الفنون الجميلة ببغداد ثم واصل دراسته في "أكاديمية الفنون" الجميلة وحاز على درجة عالية أهلته للذهاب في بعثة دراسية لألمانيا حيث أكمل دراسته العليا ونال درجة الدكتوراه وعاد الى "بغداد" ليواصل رحلته الطويلة عبر تقديم العديد من الأعمال أبرزها "الانسان الطيب" و"تساؤلات مسرحية" و"كشخة ونفخة" و"ترنيمة الكرسي الهزاز" التي لاقت نجاحا كبيرا جعله يعيد عرضها في اوروبا بعد عشرين سنة من تقديم عرضها الأول.
في هذا الحوار الذي سبق رحيله بوقت قصير يتنبأ كرومي بموته القريب غير عابئ به بل يرحب به ، فهل ثمة من ينتظر موته! هنا آخر ماقاله المسرحي الراحل في محترفه بالعاصمة العمانية مسقط.
في البداية سألناه من هو عوني كرومي فأجاب: هو صنيعة رجال الثقافة والأدب والمسرح ليس فقط في العراق إنما في كل ما قرأته وعايشته ولهذا اعتدت ان ابدأ كتبي بتحية هؤلاء الذين قدموا لي الخبرة واحتضنوا جهودي الفنية والعملية مواصلا معهم درب الفن.
- هل من الممكن ان تذكر لنا بعض هؤلاء؟
أنهم جميع الفنانين الرواد الذين ساهموا في تطوير تجربتي ومنحوني الثقة واذكر منهم أساتذتي الأفاضل صفي الشبلي وإبراهيم جلال وبهنام ميخائيل وجاسم العبودي وجعفر السعدي وسامي عبدالحميد وبدري حسون فريد وحميد محمد جواد وجعفر علي وجميل نعيف وبوخيم نبياخ وشوماخر وهافير مللر وفريته ماكفارت وهنا أجدني ملزما بذكر معهد وأكاديمية الفنون الجميلة في بغداد وجامعة همبولدت في برلين وجامعة اليرموك في اربد والمعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق وفرقة المسرح الشعبي العراقي والأردني والألماني واقف إجلالا وإكبارا لكل المبدعين الذين ساهموا في أغناء تجربتي في كتاباتهم ودراساتهم النقدية وعلى رأسهم الأستاذ المرحوم د. علي جواد الطاهر.
أحببت ان أعيش أزمة الصراع
- وما التجربة الحاسمة في حياتك الفنية؟
اختياري لدراسة المسرح في ألمانيا بعد ان رشحني امتحان القبول بألمانيا لدراسة السينما لكنني قلت لهم لا أريد ان ادرس السينما لأنني ولدت الى المسرح والى المسرح أعود ورأيت ان ألمانيا قلعة المسرح لذلك اخترت دراسة المسرح وكانت برلين تعيش قمة الجدل والصراع فصارت لي بؤرة الصراع من اجل ان اكتشفت إنسانيتي فكنت أحب ان أعيش أزمة الصراع.
- لكنك تعاملت مع التليفزيون والسينما أيضا؟
هذا صحيح والبعض وياللمفارقة! يعرفني من خلال مسلسلات الأطفال التي قمت بإخراج حوارها لكنني لم أتعامل معها كمجالات يمكن ان أحقق نفسي خلالها.
إعادة طرح الأسئلة الأزلية
- أنت من المسرحيين الذين يهتمون بالتمرين المسرحي والمختبر المسرحي كيف تبسط لنا مفهوم المختبر المسرحي؟
لقد تحدثت في هذا الموضوع باستضافة في بحثي الموسوم "مختبرات المسرح التجربة والمنهج الى أين" الذي شاركت من خلاله في الندوة الفكرية للمهرجان السادس للفرق المسرحية الخليجية ورأيت ان ابسط تعريف للمختبر المسرحي هو تجربة يحصل عليها المشارك من خلال تفاعله الحر مع مجموعة العمل فلا يخضع لتقاليد وعادات أكاديمية إنما هو بحث دائم ومتواصل ووعي كامل بمعرفة أدوات الفنان الذاتية والجسدية والذهنية والصوتية والفكرية ان المختبر المسرحي يعيد طرح الأسئلة الأزلية لفن المسرح وبالذات عن الممثل من اجل تطوير أدواته التعبيرية وهو يعمل على صهر الأساليب والمذاهب والطرق والنظريات المعرفية.
- ومتى تكون المختبرات المسرحية مثمرة؟
اذا تم متابعة نشاطها بهدوء وكتابة أفكار العمل لأن التمرد على طرق الإبداع لا يمكن ان يستمر لهذا ندعو دائما الى متابعة المختبرات المسرحية من قبل منظرين مسرحيين والعمل بعيون غريبة وموضوعية ومن داخل المختبر.
- وكيف يبلغ المسرح غايته؟
عندما يقيم حوارا بينه وبين المجتمع على الا يكون هذا الحوار أحاديا.
عندما ودعت الكراسي
- وماذا عن تجربتك مع مسرح الستين كرسي؟
مسرح الستين كرسي مختبر حاولت من خلاله ان أعيد للممثل الاعتبار فهو المؤلف الحقيقي للنص بعد ان كان المسرح هو المؤلف ثم صار المخرج المؤلف وبحثنا في أعمالنا عن الأخطاء من خلال التمرين المسرحي وقدمنا العديد من العروض التي ظلت في الذاكرة وكان أصعب موقف واجهته في حياتي عندما ودعت كراسيه.
- منذ أعمالك الاولى مرورا بمسرحيتك (تساؤلات مسرحية) تبدو مشغولا بطرح الأسئلة ماذا يعني لك السؤال؟
ركيرة أساسية فعندما لا نساءل الأشياء بالعمل الفني لا نخلق الحوار ووظيفة المسرح جعل الانسان يفكر بكينونته بعكس ما كان يدعون إليه في الستينيات والسبعينيات انه يجب ان يصنع (جماهير) ويصغ حوارا مع الآخر المسرح تربية ديمقراطية عند الانسان وليس ان يحول الجماهير الى رهط أو قطيع غنم للموت أو القبول أو الاقتناع يجب ان يفكر الانسان كيف يعيش؟ ولماذا يعيش يطرح أسئلة الوجود كلها وعندما يتخذ الانسان موقفاً نقديا مما يعرف ولا يتوحد يبقى يحافظ على ذاته وكيانه ويتحول الى طاقة إنتاجية أنا لا أريد ان استهلك الجمهور إنما أريد ان احفز الجمهور من اجل المزيد من إنتاج الأفكار كما لا أريد ان اقمع الجمهور بفكرة واحدة إنما أريد ان اشظي الجمهور بعدد أفراده الى أفكار.
- أعدت في السنوات الأخيرة تقديم عدد من أعمالك ق (ترنيمة الكرسي الهزاز) و (صراخ الصمت الأخرس) و (الآنسة جوليا) ما الذي يجعلك تعيد هذه الأعمال؟
أنا من المخرجين القلائل الذين يعيدون أعمالهم ولا أحب إعادة أي عمل بنفس القراءة القديمة أي ان المشاهد سيبدأ بقراءة هذا العمل كونه مبدعاً بوعي جديد فمرة أراهن على قراءتي ومرة أراهن على حدسي بوجود قراءة للمشاهد وقد قرأت الأعمال التي ذكرتها في ضوء خلق حالة غرائبية من خلال استعمال مفردات مادية رمزية توحي بمعناها ولكنها لا توحي بمادتها ففي (الآنسة جولي) استعملت (النايلون) وهو مادة حيادية لا يمكن ان يوحي بزمان أو مكان فصار فضاء وملابس وبيتا وغابة وفراشا وبحرا وعبر الممثل أردت استثمار المفردة الدرامية مناقشا أزمة المجتمع والجيل الجديد الذي يتساءل عن جوهر الصراع الوجودي عن المرأة لان المرأة ليست التي تسقط اجتماعيا أو طبقيا إنما التي تستلب وتنسلخ كمن يحاول ان يكشف عن ازدواجية الوعي الاجتماعي بين ظاهرية المجتمع وباطنية الفرد وأخلاقيته وهناك سبب يتعلق بالممثلين وقدرة هذا النص على إعداد ممثل يؤلف النص الجديد عبر أدواته وتحليله وخبرته الذاتية وكان الممثل يعطي تأليفا جديداً للشخصية ويأخذ موقفا من الشخصية فعندما وجدت عند الممثلين رغبة التحول الى ممثلين إبداعيين شعرت بحماسة ان أقوم بإعادة تقديم هذا العمل وهناك سبب آخر هو الدخول في الغامض السراني في عالم الأخلاق أو الأخلاقية باعتبار ان الأخلاق سلوك وفعل والغور في المحرم بالذات والمحرمات في المسرح العربي كثيرة وأهمها الجنس فأردت أن أدخل موضوعة الجنس كظاهرة أخلاقية محرمة بالمسرح والعربي وان اصدم المشاهد واعري الجانب المستور غير المعلن وآي خلق الصدمة عند المشاهد.
- هذا عن الآنسة جوليا فماذا عن إعادة عرض (ترنيمة الكرسي الهزاز)؟
لقد أصبحت هناك جالية عراقية بالعالم انقطع تواصلها مع ثقافة المسرح العراقي فأردت ان أخاطب هذه الحالية واخلق جسوراً جديدة وبنفس الوقت اعكس لحظات من المسرح العراقي وعمله الإنساني وتطرقه للموضوعات الإنسانية داخل العراق وهناك سبب آخر مهم هو ان هذا الهم والانتظار والبحث عن خلاص لا يزال متواصلا فخلفية الحرب على إيران لا تزال قائمة بعد غزو الكويت فإذا كنا ضد حرب إيران حيث قدمنا العمل في أواسط الثمانينيات ببغداد فنحن ضد أي حرب أخرى لأنها لا تعزز الا دمار الانسان والحرب هي تدمير الذات كذلك أردت من إعادة العرض إعادة الثقة بالمثقفين حيث كان يهمني ان أصل إليهم فقدمت (28) عرضا في ستة بلدان هي (النرويج والسويد والدنمارك وألمانيا وهولندا وبلجيكا) وفي داخل كل بلد عرضنا في أكثر من ثلاث أو أربع أماكن وكان لدينا طموح تقديم نموذج المسرح العراقي في الداخل للخارج وتعريف المثقفين الأجانب بها لان اغلب المشاهدين (80%) أجانب.
- وماذا عن (صراخ الصمت الأخرس) التي قدمتها للمرة الأول على مسرح الستين كرسي ببغداد؟
قرأتها عام 1999 بشكل مختلف حيث ترجمت من العربية للكردية وتحولت شخصياتها المجهولة الى معلومة كانت مفرداتها التليفزيونات والعالم المتهدم وكوارثه وإسقاطاته كسؤال كوني تحولت هنا الى الأزمة العراقية والصراع العراقي جعلت الفضاء عبارة عن خيمة تحمل اسم (الأمم المتحدة) فنكتشف ان هذه الخيمة مزيفة هذه التداعيات تحولت الى فعل واقعي يعكس الزمن والأزمة المعاشة وخلال هذا النص استطعنا ان نجعل المحمول الجمعي والوعي الجمعي يتداعى من خلال العرض لقد عريت المجتمع بتناقضات وعيه فالكل ضد المسرحية والكل مع المسرحية والكل جعلته يأخذ موقفاً نقديا فجاء العرض سوطاً للمشاهد وموقفا ضد القناعات وخلق حوارا مع الذات فكانت المسرحية عبارة عن تساؤلات جديدة عن الزمن وعن الفرد.
ـ منذ أربع عشرة سنة وأنت تعيش في المنفى ماذا أعطتك الغربة؟
الغربة مساحة أوسع للإبداع وفضاء من الحرية ولأول مرة أخرج من الأرض كملاك لأرى كيف يعيش البشر على الأرض وعندما تبتعد أكثر عن موقع المأساة ترى المأساة بوضوح وكم هي مأساة العراقيين والمهم دمارهم وتحطيم شخصيتهم والعمل على ان يفقدوا الثقة بأنفسهم وان يتوقفوا عن الإبداع والعطاء وجدت الحل أن اعمل مسرحاً للقضاء على المأساة التي نعيشها ان الموت في أي بقعة على الأرض هو اغتراب الانسان عن الكرة الأرضية لكن الحياة والبقاء والعمل هو التحدي لهذا أؤمن بأنني يجب أن ابدأ كما في معقداتنا في البدء كانت الكلمة إنما في البدء كان الفعل من هذا الفعل نستطيع ان نضع عالما جديدة وثقافة جديدا ووعياً جديداً.
ـ تبدو مشغولاً بسؤال الموت أيضاً ماذا يمثل لك هذا السؤال؟
انه سؤال أزلي ولكنه ليس سلطة خوف وأنا لا أحول الموت الى سلطة للخوف أو نوع من أنواع سلطة الخوف لأن التفكير بالموت يسمح للآخرين ان يهيمنوا أو تهيمن الثقافة السائدة عليك وأنا ما زلت أعيش وحتى قبل الموت بيوم واحد يمكن للإنسان أن يبدأ الحياة من جديد فرغم كل رؤيتي للعالم التشاؤمية وعرضي لصورة العالم وصدمة المشاهد بدمار العالم والتركيز على الدمار الأخلاقي السياسي الاقتصادي بهدف التقليل من شأنه وإشاعة بديل أو حوار بين البشر تأثر وتأثير جدل كل هذه بالبقاء يجب أن نتعلمها وهذه بالعمل لا نقضي على الموت فقط إنما نتحداه بالبقاء وإدامة الصيرورة فالموت لا يخيفني ومتى يأتي أهلاً به أنا العب بالوقت الضائع ويبقى الموت الصدمة الإنسانية التي تهزني لأن موت الآخرين بالصدفة أو بأسباب لا معقولة ان كانت حروبا أو أوبئة أو خللاً في البيئة أو استعمال أسلحة دمار يقلقني ويهزني ولهذا أمل أن يقوم المسرح بتعرية هذا سأكون دائما مع الفريق الخاسر في أي حرب لأنه هو الفريق الأكثر دماراً وسأبقى ضد أي منتصر لأن انتصاره ما هو الا مزيد من تراكم رأس المال وأن وراء كل حرب دوافع اقتصادية قبل أي شيء آخر ولدي قناعة أن البشر يمكن أن يتعايشوا وأدلة الحروب بأي شكل لا أبررها حتى حروب التحرر الوطني أدينها لأنها تقتل الانسان فإذا استطعنا ان نقف ضد العنف بجميع أشكاله سنستطيع أن نقف مع إنسانيتنا.
ألف ياء
30/05/2006