لا يخفى على الدانماركيين أن غالبية سكان العالم تجهل الكثير عن بلادهم وموقعها على الخريطة، وفي أحسن الحالات يظن البعض أن العاصمة كوبنهاغن هي ولا شك مدينة تابعة لأسوج. هذه الطرفة مثار ضحك بالنسبة الى الدانماركيين، وتعكس أمرين، الأول روح السخرية التي يتحلون بها عموما، والثاني مشاعر الحب والاعتزاز المشوبة بشيء من الغرور يكنّونها لهذه البقعة الصغيرة التي ينتمون إليها. ربما عُرفت الدانمارك أيضا بأنها بلاد الحكايات الخرافية والخيالية الرومانسية واقترن اسمها بحورية البحر وتيفولي. لكنها أيضا البلاد التي عرفت بأنها متسامحة او نصيرة لكل ما من شأنه أن يحمل معاني الإنسانية والحرية والعدالة، بالإضافة إلى سياستها التي تطمح إلى تحقيق أقصى درجات الإستقرار والأمن والضمان الإجتماعي والرفاهية لمواطنيها. لكن الأمر لم يعد كما كان عليه عموما، سواء في ما يخص السياسة التي جنحت في سنواتها الأخيرة إلى اليمين بشكل ملحوظ، ونشر الصور الكاريكاتورية في صحيفة "يولاند بوستن" وما أثارته من ردود فعل عنيفة لدى المسلمين، مما جعل الدانمارك عنوانا يتصدر صفحات الجرائد في العالم، وحمل الدانماركيين على أن يستيقظوا ذات صباح ليروا علم بلادهم يُحرق في الساحات والشوارع. مشكلة الدانماركيين مع العلم الدانماركي أنه لا يشير إلى الهوية الوطنية أو يرمز إلى استقلال الدولة، بقدر ما يمثل عموم الناس. العلم يوضع على الطاولة عندما يحتفل أحد أفراد العائلة بعيد ميلاده، أو يُرفع في المناسبات الشعبية. لذا فإن تأثير حرق العلم كان أشدّ إيلاما في نفوسهم من أي شيء آخر. لذا أقبل الدانماركيون، كما لم يقبلوا من قبل، على صفحات الإنترنت والمكتبات العامة ومحال الكتب وغيرها من المصادر التي تتناول الأزمة، في محاولة منهم لفهم الدوافع الحقيقية التي جعلت ردود الأفعال تصل الى هذا المستوى. ارتفعت نسبة المقترعين للأحزاب اليمينية، كما ارتفعت نسبة المقترعين لأحزاب المعارضة. المبادرات بين الناس، بمعزل عن الدولة ومؤسساتها، أخذت أشكالا وأحجاما مختلفة في تحليل الأزمة وإيجاد حلول لها ولاحتوائها على الصعيد الشعبي.
وإذ نحن في صدد إلقاء الضوء على حركة الترجمة من العربية إلى الدانماركية، ليس من المفارقة في شيء إذا تبيّن لنا أن حجم الإقبال قد تزايد بشكل لافت على شراء الكتب التي تتناول الإسلام والعرب ومجتمعات الشرق الأوسط، ومثله عدد الزوار على الصفحات الاكاديمية في الجامعات والمؤسسات، كذلك حضور النشاطات الثقافية ذات العلاقة بالأزمة ودعوة المعنيين من سياسيين وأساتذة وباحثين في تلك الميادين إلى المنابر المختلفة. وتضخ الصحف حتى هذه اللحظة الأخبار والمعلومات والتقارير المتنوعة الاتجاه، يرفدها المراسلون من مناطق ردود الفعل وينقلون وجهات النظر المختلفة والرأي الأخر من خلال المقابلات والمقالات المترجمة من صحف العالم العربي والغربي.
هل يدفع هذا الاهتمام إلى الاستغناء عن قراءة الشعر والرواية والقصة العربية، وهل للأدب العربي دوره في توضيح سوء الفهم الذي يراه البعض هوة كبيرة بين العالمين، هي في طريقها إلى خلق حالة من صدام حضارات ؟
تشير قاعدة البيانات الخاصة بالمكتبات الدانماركية إلى توافر ما يقارب 250 عنواناً عربياً، مترجمة مباشرة من العربية إلى الدنماركية. هذا العدد المتواضع يرتفع قليلا إذا أخذنا في الاعتبار الكتب العربية المنقولة الى الدانماركية من خلال لغات وسيطة. تتباين العناوين بين أدب وسياسة وجدال فكري وأديان، في كتب تعود الى كتاب عرب قد يكتبون بلغات غير العربية، مثل الفرنسية في الغالب والإنكليزية أيضا، وتكون مترجمة من العربية.
المسؤولة في "مكتبة المغتربين"، مي جلبي، تجيب بهدوء أن اهتمام الدانماركيين واضح بالكتب التي تدور حول العرب أو التي كتبها مؤلفون عرب، والدليل إن شحة الكتب العربية المترجمة يعوّضها إقبال الدانماركيين على قراءة تلك الكتب بالإنكليزية أو الفرنسية، ويمكن دوما التأكد من ذلك بإحصاءات هي في متناول الجميع. ينبغي القول إن "مكتبة المغتربين" تختص بأدب الأقليات التي يقدّر عددها بـ300 ألف أجنبي تقريبا في الدانمارك، ويشكل العرب بينهم نسبة لا بأس بها. تهتم المكتبة على مدار السنة بشراء آخر الإصدارات من الكتب العربية في كل الاختصاصات، بالإضافة إلى الكتب المترجمة من العربية والموسيقى والأفلام العربية.
في استعراض العناوين نجد ان الكتب الأدبية المختارة للترجمة إلى الدانماركية تكاد تنحصر في الرواية التي تتناول في موضوعاتها قضية المرأة، القضية الفلسطينية، الحرب اللبنانية. ثمة مثلاً أسماء مثل نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي، وجل أعمال غسان كنفاني، وهناك ايضا حنان الشيخ وليانة بدر واملي نصر الله، وقبلهم جبران خليل جبران بالطبع. وفي القائمة نجيب محفوظ وأمين معلوف والطاهر بن جلون وعبد الرحمن منيف، وغيرهم قلة يتوزعون على بلدان عربية او من المقيمين في الدانمارك. كتب التراث والدين والسياسة تأخذ أيضا حيزا يختص به الأكاديميون في الترجمة عبر المؤسسات التعليمية والتربوية التابعين لها.
لكن الدانمارك تتراجع أيضا عن الدول الإسكندينافية المجاورة من حيث عدد الكتاب المهاجرين المقيمين الذين يطبعون كتبا باللغة الدانماركية أو المترجمة إليها، وهذا يشير إلى تقصير دور النشر المحلية التي تفضل في الدرجة الأولى الكتب التي تدر الأرباح، كما يلفت الى دعم الدولة الذي لا يعتبر كافيا.
مدير دار "ليندهارد أو رينكهوف" للنشر مورتن هيسيلدال 1964 لا يرى أن هناك اهتماماً خاصاً بالأدب العربي لكنه يلفت الى الاهتمام المتزايد بأخبار العالم العربي، ويعتقد أن من الأسهل الوصول إلى القراء من طريق أسماء موجودة أصلا في وعي القارىء الغربي، ويخالفه في ذلك رئيس مجموعة "رزينانته" و"هوست أند سون" و"ساملرن"، وهي دور نشر تابعة لـ "كوليندال"، الأكبر والأقدم بين دور النشر في الدانمارك. لا تزال "ساملرن" مصرة على خطها المتميز في انتقاء الكتب، على ما يقول توربن ماسن الذي ينعتونه بأنه "الإسطة" في عالم النشر واكتشاف المواهب: "الناس من ذوي الاختصاص قد تفاجأ لأني أنشر بعض الكتب لما ينطوي عليه ذلك من مجازفة، لكني لا أستطيع التخلي عن متعتي هذه باقتناص ما أراه خاصا ومميزا، ونحن نحاول تعويض ذلك في الدور الأخرى بإصدار الكتب التي تضمن إيرادات للدار".
يرفض توربن ماسن رأي مدير "ليندهارت أو رينكهوف" الذي مفاده أن عوالم الكتب العربية بعيدة بعض الشيء عن اهتمام الدانماركيين ونحن في حاجة إلى وسطاء لتقليص الهوة بين الثقافتين. ويشير ماسن إلى كتب الأدب المترجمة إلى الدانماركية من الباسك واميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا وإيطاليا، مؤكداً تنوع عوالمها وعدم اختلافها عن الكتب العربية في شيء. ثم يخبرني فجأة أنه انتهى للتو من قراءة رواية "باب الشمس" لإلياس خوري ويعتزم ترجمتها، ذاكرا أن موضوع الرواية في منتهى القسوة، ومؤثر، وأن أحداثه ليست معروفة لدى الجميع، لكنها لا تعصى في المقابل على الفهم، وأن طريقة سرده رائعة وهذا ما يثير الحماسة: "يمكنني أن أتلمس أسلوبه، علما بأن الكتاب مترجم أيضا ترجمة جيدة إلى الإنكليزية، لكن أعود لأقول ان هناك كتبا تفرض نفسها لجودتها فتتملكني الرغبة في تقديمها الى الكاتب والقارئ الدانماركيين ليتعرفا اليها. أما الوسيط فلا بأس به، شرط ألا يحتكر المهنة فتأتي النتائج سلبية في النهاية".
ويضيف ماسن: "هناك أسباب أخرى قد تكمن في أسلوب الكاتب نفسه. خذي مثلا ساراماغو، ليس أسلوبه بالسهل، إنه إنسان بطيء ومعقد، هذا النوع من الكتّاب يحتاج إلى وقت ليتسلل إلى قلب القارىء، يبدأ قليلا في الكتاب الأول، ثم الثاني وهكذا. ماركيز لم يكن انتشار كتبه سهلا في البدء، ذلك أن اكتشاف النص الجيد يحتاج إلى الوقت. قد يفوت النص الجيد على محرر ما، وخصوصا في دور النشر الكبرى، بسبب ضغوط العمل وضيق الوقت والعدد الكبير من المخطوطات الملقاة فوق مكتبه".
مدير قسم الدراسات الشرقية في المكتبة الملكية، ستي غاسموسن، يرى أن الإقبال أكبر على الكتب الأكاديمية والمتخصصة لكتّاب عرب منها، على الرواية والشعر العربيين. تكمن المشكلة الأخرى في أن تمثيل الأفراد ذوي الإختصاصات المختلفة من الطرفين ضعيف جدا في المجتمع هنا، لذا فإن وجهات النظر العقلانية المهمة مفقودة، كأساس للفهم المتبادل. ونحن نحتاج إلى تنوع في الصور المنقولة التي تصلنا، كذلك حول المناقشة الدائرة بين المفكرين والكتاب والصحافيين داخل المساحة الثقافية العربية حول الموضوعات المختلفة، وليس الدين فقط.
أستاذة اللغة العربية في جامعة كوبنهاغن، جون ضاحي، التي ترجمت بعض روايات نجيب محفوظ، ترى، بخلاف هيسيلدال، أن هناك سوقا مربحة للكتب المترجمة من العربية إلى الدانماركية حاليا، واهتماما عاما بأنواعها المختلفة، وبكل ما يُكتب عن الإسلام سواء أكان سلبياً أم إيجابياً أم تحليلياً أم ذا مضمون جدلي، وبالأدب الجيد الذي يدور حول الجنس، ذكرياً أكان أم أنثوياً، وبالصحافة العربية وحرية التعبير، واهتماما خاصا بالكتب التي تتناول حقيقة الأزمات والمشكلات التي يعانيها المجتمع العربي. لكن الفئة التي تقرأ الأدب، شعراً ورواية، أقل عدداً، لذا لا يُترجَم سوى القليل وبأعداد من 1000 الى 3000 نسخة. لكنها في المقابل تنفد من السوق. وترى ضاحي أن اللجوء إلى الكتب العربية الصادرة بالإنكليزية والمنتجة في العالم الغربي، هو الغالب والمطلوب عموما، وتلفت الى أن اهتمام دور النشر بالترجمة من العربية او غيرها، سيظل مقروناً بزيادة الطلب، وهذا ما حدث مثلاً حين فاز محفوظ بجائزة نوبل للآداب. وتكشف ضاحي أن أزمة المترجمين من العربية إلى الدانماركية كبيرة. فهؤلاء لا يتعدى عددهم العشرة او الخمسة عشر في مجال الترجمة الأدبية، رغم أن العدد الى تصاعد بسبب ارتفاع نسبة الطلاب الذين يدرسون العربية واتساع حجم الاتصال بالعالم العربي نتيجة ذلك. يجد توربن ماسن صعوبة في الترجمة المباشرة من اللغة الأم عموماً، لأنها تتطلب وقتا طويلا لإتمامها، والأمر لا يخلو من غش في عالم النشر. فقد تُنقل الكتب من لغات أخرى وسيطة رغم عدم ذكر ذلك. يضيف: "اضطررت مرات عدة عند قراءتي نصوصاً مترجمة، العودة إلى الأصل ليتضح لي أن النص المترجم أفضل من الأصلي، وهذا ينبغي ألا يحصل لأن أهم الشروط التي يجب توافرها في المترجم هي أمانته".
المستعرب غاسموسن، الذي امتهن التدريس لفترة في جامعة كوبنهاغن، يقول ان الترجمة الأدبية لا تعتمد على الدراسة الأكاديمية فقط وإنما تحتاج إلى مؤهلات إضافية تكمن في الحساسية الأدبية، كالقدرة على التوصيل والإحساس باللغة، وهما من الصفات التي لا يمكن تدريسها للطلاب.
الهيئة الفنية التابعة للدولة التي تموّل المشاريع الفنية والثقافية، وتمنح ضمنا مكافآت لتفرغ الكتّاب الدانماركيين وانصرافهم الى الكتابة وأسفارهم وإقامتهم، لا تخصص إلا موازنة متواضعة للترجمة والمترجمين. لذا فالمشاريع الكبيرة تتبناها في الغالب المؤسسات الثقافية الكبرى. ويؤكد هيسيلدال أن الترجمة في هذه الحال يجب ان تعتمد على صناديق خاصة للتمويل تخفف من التكلفة التي تتحملها دور النشر. يجد غاسموسن أن الجهات الممولة محدودة، فعدد الصناديق الخاصة قليل جدا وهي مؤسسات متخصصة مثل "إيجمونت" و"ديفيد".
هل من حاجة إلى صورة مغايرة للتي نراها على الشاشات ونقرأها في الصحف؟ تفاجأ جون ضاحي أحيانا بمدى متابعة الدانماركيين لما يجري في المجتمع العربي والإسلامي، لكنها في الوقت نفسه تفاجأ أيضا بالصورة النمطية التي تنقلها الصحف وتسيطر على العامة. ويؤكد غاسموسن ذلك، فالتصريح الذي يجب ألاّ يتجاوز الدقيقة على شاشة التلفزيون، لا يعطي صورة متكاملة، كما ان المقالات ذات الجمل القصيرة التي تنشرها الصحف غير كافية (وفق صحيفة "بي تي" التي تقابل صحيفة "ذا صن" الإنكليزية). فلكي يتمكن القارىء من القراءة يجب ألا يتجاوز معدل عدد الكلمات في الجملة الواحدة للمقال سبعة).
أتساءل أخيرا، ومن هنا، من كوبنهاغن، هل ثمة حكمة لدى بعض المؤسسات الثقافية في العالم العربي في مقاطعة النشاطات الثقافية ضمن إطار التبادل الثقافي بين الدانمارك والدول العربية التي كان من المزمع إقامتها في هذه الفترة او في الفترات المقبلة؟ بل كيف نعمل على توضيح صورتنا وتصحيحها إن كانت خاطئة، ونحن لا نختار إلا حلولا عقيمة تعيدنا في كل مرة إلى الوراء؟
النهار
الجمعة 24 آذار 2006