لو قيض لك أن تطلع على هويات الكتاب العرب من مشاهيرهم إلى مهمشيهم، قد تكتشف ما لا يخطر لك على بال، فثمة بينهم من سجل في أوراقه الثبوتية انه محاسب، وهناك ربات البيوت والموظفون والمحامون والأطباء، وأحيانا المفتشون أو حتى العاطلون عن العمل. هؤلاء الذين تقرأ لهم وتظنهم كتابا كيفما ولّوا وجوههم، هم ليسوا سوى مجموعة من المناضلين من أجل مهنة لا تعترف بها الحكومات، ولا يحفل بها غالبية الناس!
منذ أسابيع توفيت كاتبة مغربية شابة بعد صراع مع المرض، وبدلا من أن يكون إبداعها عنصرا مساعدا لتوفير نفقات العلاج، كانت تستقطع من ثمن العلاج لتطبع كتبها. وقبل أكثر من عام عرض شاعر جزائري كليته للبيع لكي يستطيع تدبير مصاريف معيشته. وقبل ذلك، كان مبدع مصري كبير يواجه خطر الحكم بسجنه، لأنه لم يسدد للمستشفى نفقات عملية جراحية أجراها بها. الحالات السابقة ليست وحيدة، لكنها نماذج صالحة لإثبات وجود خلل ما. فالمبدع العربي يصرف على إبداعه بدلا من أن يستفيد من مردوده المادي، كما أنه يعاني من تجاهل مجتمعي لا يمكن إنكاره، إضافة إلى تهميش رسمي لم يقتصر على عدم الاعتراف بأهميته، وإنما امتد إلى عدم الاعتراف بمهنة الكتابة من الأساس حتى في بطاقات الهوية، وهكذا أصبح على كل مبدع أن يبحث عن مصادر أخرى للدخل.
* زكي سالم مجرد محاسب
قبل شهور مر الأديب زكي سالم بتجربة ذات دلالة، فعندما علم أن عام 2006 هو الفرصة الأخيرة للتخلص من بطاقة الهوية القديمة، التي ستلغى تماما لصالح بطاقات الرقم القومي، اتجه إلى السجل المدني، ووجدها فرصة سانحة لتغيير المهنة المثبتة في البطاقة، وهي وظيفة محاسب. لمدة عشرين عاما عمل سالم في مجال المحاسبة، قبل ان يبتعد عنها منذ ست سنوات. وخلال كل هذه الفترة، كانت هناك تغيرات عديدة تطرأ على حياته، فقد التحق بعد تخرجه من كلية التجارة بكلية الآداب، وأعد رسائل جامعية، كما أصدر عددا من المجموعات القصصية والروايات. كان يعتقد أن هذا الرصيد الحافل يكفل له ببساطة أن يحصل على كلمة كاتب في خانة المهنة، ملأ الأوراق بثقة ليفاجأ بأن الأمر ليس بالسهولة التي كان يعتقدها، ويبدو أن التجربة كانت مدهشة بالنسبة له، حتى أنه سجل بعض جوانبها في مقال نشرته جريدة «أخبار الأدب» في إبريل (نيسان) الماضي وحمل عنوان: «فشلت في أن أكون كاتبا!»، قال في المقال: «المشكلة كانت في كتابة خانة الوظيفة، إذ أن عملي الذي أمارسه حاليا هو الكتابة الأدبية والفلسفية والسياسية، وبالتالي فوظيفتي الواجب تسجيلها في الأوراق الرسمية هي كاتب، حتى الآن الأمر عادي، وإن كان يجب علي أن أعترف هنا بأن كلمة كاتب هذه لها وقع خاص جدا عندي (....). وإذ كنت قد أصدرت حتى الآن عددا من المجموعات القصصية والروايات والكتب الفلسفية والصوفية، إلا أن وظيفتي المدونة في بطاقتي العائلية القديمة هي محاسب. فقلت لنفسي لأنتهز هذه الفرصة وأستخرج بطاقة رقم قومي جديدة، وأكتب فيها المهنة التي أحبها وأمارسها منذ سنوات طويلة». ملأ زكي سالم الاستمارات وتوجه إلى الموظف المختص، فكانت المفاجأة بانتظاره: «فوجئت به يعترض على وظيفتي، فقد قال لي: لا بد أن تحضر لنا ما يثبت أنك كاتب. ها هي بعض كتبي أمامك وها هي قصصي ومقالاتي مع صورتي منشورة في كل هذه الصحف والمجلات والدوريات المختلفة»، هكذا رد زكي سالم على الموظف. لكن الأخير واصل الحوار على نحو عبثي، فسأل عما إذا كانت هذه النسخ هدية مرفقة بإهداء. جواب قد يكون أشعر سالم ببعض التفاؤل. فالموظف بدأ يتعامل معه ككاتب، وهكذا أصبح الاقتراب من تدوين كلمة كاتب قاب قوسين أو أدنى. لكن الموظف عاد ليؤكد أن هذه الكتب لا تثبت شيئا، وطلب شهادة مختومة بختم النسر أو ورقة رسمية من إحدى الجهات المعتمدة لديه تثبت أنه كاتب. بعد شد وجذب ومقارعة للحجة بالحجة، حسم الموظف القضية كلها مؤكدا أنه لا يوجد في مصر أي أحد وظيفته الرسمية هي: كاتب! سألنا زكي سالم عن تفاصيل ما جرى معه، وأكد أن محاولته تلك كانت سعيا للتوحيد بين ما يمارسه في الواقع وما يجب أن يدون على الورق، لكن يبدو أن هذا كان حلما مستحيلا، لذلك اكتفى بأن يثبت في البطاقة أنه حاصل على دكتوراه في الفلسفة الإسلامية. قناعات سالم اهتزت، على ما يبدو، بعد هذه الواقعة، وأكد لنا أن فكرة تفرغ الكاتب للكتابة فقط، كمهنة وحيدة ليست قابلة للتحقق، لا على الورق ولا في الواقع، وتساءل: «كم كاتبا في تاريخنا المعاصر استطاع ان يحيا من دخل الكتابة فقط». العقاد كان النموذج الأمثل للرد على التساؤل يقول زكي سالم: «العقاد نموذج لكن هل استطاع أن يفعل ذلك حقا؟ لقد اضطر لبيع مكتبته أكثر من مرة لكي يعيش، الأمر صعب جدا، لأن الظروف لا تسمح للكاتب بأن يعيش من كتابته، في المقابل يمكن أن يعيش بعض الكتاب الآخرين حالة رفاهية إذا كانوا تابعين للنظام السياسي، لكن هنا يفقد الكاتب استقلاليته ويقع في فخ الاستيعاب».
* فتحي إمبابي مدير عام في الهيئة القومية للأنفاق
في خانة المهنة سجلت بطاقة هوية الروائي فتحي إمبابي أنه مدير عام بالهيئة القومية للأنفاق. فهو مهندس مدني استبعد الكثيرون ممن لا يعرفونه شخصيا فكرة أن تكون له وظيفة أخرى غير الكتابة، خاصة في ظل جدل مستمر تثيره أعماله. يعلق امبابي على ذلك بقوله: «أنا لم أختر هذا التوصيف المهني، فرغم حبي للهندسة إلا أن تعريفي ككاتب أهم ألف مرة من أي مهنة أخرى، ولو كان لي الخيار لوضعت كلمة كاتب بدلا من مدير عام». ويوضح أسباب ذلك بقوله: «الواقع المادي هو السبب، فالإبداع كان مكلفا جدا، وحتى هذه اللحظة، أنا أطبع كل كتبي على نفقتي أو بمساعدة أصدقاء، ولم أحصل على أي مردود من الكتابة، لكنني أحيا حياة كريمة من عملي كمهندس. العمل الفكري لا يدر دخلا إلا في حالة واحدة، هي أن يعمل الكاتب لحساب السلطة. هناك كتاب ربحوا الملايين، لكننا لا نستطيع أن نعتبر كتاباتهم ذات تأثير فكري، لأن هناك حالة فريدة تجمع بين كل الكتاب في أوطاننا، وهي أن كتاباتهم لا تصل إلى المجتمع، فكلنا محاصرون داخل سور يشبه سور الصين العظيم»، ويحاول امبابي تحليل أسباب هذه العزلة بالقول: «بعد الحرب تضاءلت قيمة الفكر والثقافة والكتابة بشكل كبير، وأصبح المجتمع غير معتمد على نفسه، أصبحنا أمام بنية قائمة على خليط من الدجل والتفكير في الخرافة والمشاعر السطحية، وتحولنا إلى ما يشبه القطيع المناقض للفكر بصفة عامة. وعندما تعيش في مناخ معاد للعقل، تصبح كلمة «كاتب» و«مفكر» ضئيلة القيمة. فقد نتج كل ذلك بسبب تحول المجتمع من الاشتراكية إلى نظام السوق المفتوحة، وفي تحوله هذا تخلى عن دعمه للثقافة والفكر، وتحرك نحو أنماط تابعة اقتصاديا. كل هذا جعل المفكر والمثقف والكاتب هامشيين تماما، وأصبح المنتجون للثقافة والمستهلكون لها مجرد قطاع متقلص بشكل شديد الوضوح. هنا لم يعد الكاتب، يستطيع الاعتماد على الكتابة الجادة كمصدر للدخل، وأركز على مصطلح الثقافة الجادة، لأن هناك من اتجهوا لكتابة الأغنيات الهابطة أو المسرحيات الرديئة وكسبوا من ورائها الكثير. لكن كيف يمكن أن تكون الكتابة الجادة مصدرا للدخل في سوق نجد أن أكثر الكتب مبيعا فيه هي كتب أبراج الحظ مثلا؟»، لكن كيف يكون نظام السوق المفتوحة مسؤولا عن كل هذا، رغم أنه لم يؤثر سلبا بنفس الدرجة على الثقافات الغربية؟ سؤال يرد عليه إمبابي بالقول: «في المجتمعات الغربية تظل الرأسمالية، سواء كانت فردية أو جماعية، تحترم الفكر بشكل واضح. والغالبية هناك يعتبرون الثقافة والفكر جزءا من حياتهم اليومية. هناك تجد نفسك أمام سوق تستهلك من الكتاب ما لا يقل عن مليون نسخة. تجد رواية تصدر في أميركا، تترجم إلى نحو ست وعشرين لغة. ماذا يحدث عندنا؟ الرواية تطبع ألف نسخة، يستغرق توزيعها نحو خمسة أعوام! القراءة مهمة عندهم بشكل يجعلها تصبح نظاما يوميا متواصلا، أما في مجتمعاتنا فقد ضربت التحولات الاقتصادية ثلاثة أسس هي: التعليم والإعلام والثقافة. وأكبر معيار يمكن أن نقيم من خلاله انهيار الفكر بشكل عام هو الجامعات، فانهيار المؤسسة الأكاديمية بهذا الشكل المزري يؤكد حجم الكارثة، إذا كانت هذه هي البيئة التي تستهلك الفكر والثقافة بشكل عشوائي، فكيف يمكن للكاتب أن يقدم إنتاجه ويعيش من مردوده؟»، سؤال ينهي به فتحي امبابي وجهة نظره، ليؤكد أن اختفاء الوجود الشكلي للكاتب على بطاقة الهوية، ليس سوى تعبير عن حالة من الغياب الواقعي في مجتمع أصبحت الكتابة فيه نقشا على الماء.
* سلوى بكر مفتشة تموين
من هذه الجزئية تحديدا تنطلق الروائية سلوى بكر، فعقب سؤالها عن الموضوع، حاولت أن تتجاوز بسرعة فكرة تدوين مهنة الكاتب في بطاقة الهوية، إلى مناقشة وضع الكاتب في مجتمعاتنا، لكننا أشرنا إلى أن الجانبين الشكلي والموضوعي لا ينفصلان في هذه القضية، فقالت: «العمل المثبت في بطاقتي هو مفتشة تموين سابقا، وفكرت أن أغيرها إلى أديبة أو كاتبة. وأعتقد أن هذا ممكن الآن، فاتحاد الكتاب يختم على شهادة تؤكد عضويتي فيه، وبالتالي يمكن أن اثبت ذلك في البطاقة». اعتقاد سلوى بكر لن ينتقل إلى حيز التنفيذ غالبا، لأن هناك من حاول وفشل، والتجربة التي ستتضمنها السطور التالية للأديبة عفاف السيد ستؤكد ذلك. لكن سلوى بكر تتجاوز كل هذا لتدخل إلى عمق القضية فتقول: «المشكلة ليست في ما تثبته بطاقة الهوية، الأهم هو أن يعترف المجتمع بضرورة وجود الكاتب والعمل المرتبط به.
قبل سنوات قال جان كوكتو: آه لو عرف الناس وظيفة الشعر، وهو تعبير يلخص حالتنا. فنحن في مجتمعات لا تجد ضرورة للإبداع، لأن هناك تركة تاريخية ثقيلة أدت إلى تراجع دور الثقافة. هنا يصبح السؤال منطقيا: لماذا لا يعيش المبدع من إبداعه؟ سؤال مهم تقول سلوى بكر «لكن تعميمه يتضمن خطأ واضحا، فهناك من يعيش من كتابته فعليا، بدليل أنه ليس كل الشعراء يعرضون بيع أعضائهم ليعيشوا. هناك من يعيشون في رغد لأن هناك جملة من المواضعات الاجتماعية تؤدي إلى بروز أحد الكتاب، لكن في المقابل، قد تجد كاتبا أكثر أهمية يتضور جوعا، لأنه ليس قريبا من السلطة، كما أنه لا ينتمي إلى جماعات تكرسه. وهنا يلعب الإعلام دورا بحيث يمكن أن يرفع بعض الكتاب إلى أعلى ويخسف الأرض بآخرين. لكن المشكلة الأكبر تتمثل في أن الإبداع الحقيقي لا يشكل ضرورة حياتية للجموع في أوطاننا العربية. الناس لا يقبلون على العمل الإبداعي كما يقبلون على رغيف الخبز، مثلما يحدث في مجتمعات أخرى، اود أن أتساءل: كم منزلا يضم مكتبة في أوطاننا؟ الإجابة تشير بلا شك إلى وضع حضاري متدن للغاية، يزداد تدنيا يوما بعد آخر بسبب جملة من المواضعات السياسية والثقافية وتدهور التعليم، لا يمكن الاكتفاء بسبب واحد للأزمة»، ننتقل من العام إلى الخاص بسؤال عن مصدر دخل سلوى بكر ككاتبة في ظل كل ما أشارت إليه، فتجيب: «أنا شخصيا لا أعتمد على الإبداع كمصدر للدخل، وغالبية المبدعين لا يعيشون من مردود إنتاجهم الأدبي، لأن المقابل محدود جدا، حتى لو حظي الكتاب بإقبال، فإن النسبة التي يحصل عليها الكاتب، لا تكفي لتقيم أوده كما يقولون. وهكذا فإن معظم الكتاب يستندون إلى مهن أخرى للعيش من مردودها، أو يرتبطون بجهات يمكن أن تمدهم بمصدر للدخل. فكما أعرف أن الشعراء الفلسطينيين مثلا ظلوا لسنوات طويلة، حتى قبل إعلان السلطة الوطنية، يحصلون على دخول ثابتة من المؤسسة الإعلامية الفلسطينية. أذكر تجربة حدثت لي قبل فترة بسيطة، وهى أن كاتبا مسرحيا أميركيا من أصل مصري، قام بإعداد مسرحيات عن عدد من القصص القصيرة الخاصة بي، التي ترجمت للإنجليزية، وعندما أرسل لي العقد، عرفت لماذا يمكن أن يعيش الكاتب في الغرب من إبداعه. فقد تضمن العقد بندا يضمن لي نسبة من ثمن كل تذكرة في حالة تحويل العمل إلى مسرحية، تعرض في مسارح برودواي. هناك يتم ضمان أي حق للكاتب، ولو كان مفترضا. أما عندنا فالأمور تمضي على النقيض. لقد أعلنوا في الصحف لدينا عن تحويل إحدى رواياتي وهي «ليل ونهار» إلى مسلسل، يقوم ببطولته عمر الشريف، حدث هذا من دون أن يتصل بي أحد، وهو أمر يعبر عن مناخ عام يتجاهل المبدع».
* عفاف السيد لا تعمل!
في نفس السياق تمضي آراء الروائية عفاف السيد، لكن البدء من قصة بطاقة الهوية يضمن مزجا ذا دلالة بين وجهة النظر والواقع العملي، قبل فترة كانت المهنة المدونة في بطاقتها القديمة: لا تعمل، وعندما استخرجت البطاقة الجديدة المعروفة في مصر باسم الرقم القومي أصبحت المهنة هي: حاصلة على ليسانس آداب، وبين المدون في الحالتين قصة تؤكد أن مهنة الكاتب تجمع بين عدم الاعتراف المجتمعي والرسمي: «عندما كان البعض يسألونني ماذا تعملين كنت أقول كاتبة، هنا كنت أواجه بعلامات استفهام عن طبيعة هذه المهنة، والبعض كان يعتقد أنني كاتبة في محكمة، هذا على مستوى المواطنين العاديين. لكني فوجئت أن الأمر لا يختلف كثيرا في الدوائر الرسمية، فأثناء استخراجي لبطاقة الرقم القومي حاولت أن أدون في خانة المهنة أنني كاتبة، فقال لي الموظف: نريد مستندا يثبت ذلك، أعطيته كتبي فتساءل وما الذي يثبت أنها لك؟ قلت إن اسمي وصورتي موجودان عليها، لكنه أكد أن مجموعة كتبي لا تصلح لإثبات أنني كاتبة. شعرت أنني مستفزة وقررت وقتها أن تدوين هذه المهنة ليس أمرا ضروريا، طالما لا تجد اعترافا رسميا، لكنني قررت أيضا أن أخوض المغامرة لنهايتها لأعرف كيف يمكن أن تنتهي. سألت الرجل عن الحل فأخبرني بأنه ينبغي علي أن أحضر مستندا رسميا مختوما بشعار الجمهورية، وهو ختم النسر يثبت أنني كاتبة، بعد جدال أخبرته أنني عضو في اتحاد الكتاب، فرأى أن هذا حل مناسب وطلب إحضار ورقة من الاتحاد تثبت ذلك. بعد أيام عدت له بالورقة لأفاجأ برفضها هي الأخرى لأنها مختومة بختم اتحاد الكتاب وليس شعار الجمهورية، فقررت أن أكتب أنني حاصلة على ليسانس آداب! وهكذا لم تنجح عضويتي باتحاد الكتاب ولا كوني نائبة لرئيس الفرع المصري لنادي القلم الدولي، ولا عضويتي في نحو خمس عشرة جمعية في إقناع الموظف بأنني كاتبة، لسبب بسيط هو أنني لم أستطيع الحصول على ختم نسر يؤكد ذلك». وتبرر عفاف السيد ما حدث على المستويين الرسمي والمجتمعي بأن: «الصورة الذهنية لدى الجميع عن الكاتب مبهمة». هنا يصبح السؤال عن اعتماد الكاتب على إبداعه كمصدر للدخل عبثيا، لكنها تجيب: «نحن نصرف على الكتابة باستمرار ولا نأخذ منها، بدءا من شراء كتب لنقرأ، وعندما نكتب وأيضا عندما ننشر يتم ذلك على نفقتنا، والأمر لا يختلف كثيرا عند التوزيع، فنحن نهدي مؤلفاتنا، وهناك من يزيد على كل ذلك بمجاملة من سيكتب عنه في الصحف! نحن لا نستفيد إذن إلا الحالة المعنوية التي تتحقق لنا من الإبداع».
الواقع إذن يؤكد أن كل كاتب لا بد أن يضمن مصدرا آخر للدخل، يضمن له الاستمرار في الكتابة، لكنه يمكن أن يصبح في الوقت ذاته عائقا أمام الإبداع، لأنه يستهلك المبدع فتتراجع الكتابة على قائمة أولوياته. تعلق عفاف السيد قائلة: «عندما قرر صنع الله إبراهيم أن يستقيل وأن يكون كاتبا فقط، حقق قفزة في الفراغ، ولا أعرف حقيقة كيف يستطيع أن يعيش من الكتابة فقط. هناك كتاب كثيرون آخرون لم يستطيعوا ذلك، واضطر بعضهم إلى أن يتنازل، وهناك من اختار أن يكتب للصحف، وخير مثال على ذلك الراحل محمد مستجاب، الذي كان يكتب في عشرات الصحف كتابة غير إبداعية لكي «يأكل عيش» لأن الإبداع ليس مصدرا للدخل. حالة مستجاب قد تكون الأفضل وسط كتاب قد يقومون بأعمال أخرى لا ترتبط بالكتابة نهائيا، هنا يقع الكاتب في إشكالية الازدواجية. فهو يكون مرغما لأن يكون (أرزقيا) بدلا من أن يكون مستقلا»، في سياق كهذا أصبح طبيعيا أن تكون لكل كاتب مهنة أخرى غير الكتابة: «أنا شخصيا أقوم بتدريس الطلبة الأجانب، لكي أوفر مصدرا للدخل. حتى منح التفرغ التي تعطيها وزارة الثقافة لعدد من الكتاب سنويا، لإنجاز مشروع أدبي لا تجدي كثيراً، لأنها تذهب إلى غير مستحقيها، أما الشباب المبدعون فلا يحصلون عليها غالبا، وإذا ذهبت إليهم فهم يحصلون على حدها الأدنى، وهو غير كاف، ويبدأون البحث من جديد عن مصادر أخرى للدخل، وهو ما يجعلهم يدورون في نفس الحلقة المفرغة».
الشرق الأوسط
18 أكتوبر 2006