يتباهى البلجيكيون الفلمنكيون بإتقانهم العديد من اللغات على عكس جيرانهم الألمان والفرنسيين والهولنديين. يستطيع البلجيكي العادي في الشارع أن يتحدث معك الإنكليزية والفرنسية والأسبانية، وأحياناً تجده يعرف الألمانية أو السواحلية، فضلاً عن الهولندية لغته الأم، وليس بعيداً أن تجده يعرف اللغة العربية أو إحدى محكياتها كالمصرية أو السورية أو اللبنانية. إحساس المواطن الفلمنكي في بلجيكا بأن لغته الهولندية لا تملك القاعدة العريضة التي تملكها اللغات الأخرى كالإنكليزية أو الفرنسية أو الإسبانية، دفعه إلى اكتساب العديد من اللغات الأخرى إضافة إلى لغته الأم. ناهيك بالحالة الخاصة التي تحياها بلجيكا بوصفها بلداً يضم العديد من الجنسيات المختلفة، فهناك المغاربة والأتراك الذين يشكلون أكبر جاليتين أجنبيتين في البلاد، يليهما الروانديون والعديد من الشعوب الأفريقية الأخرى المتحدثة بالفرنسية، إلى جانب جاليات أخرى مثل الإيطاليين والفرنسيين والألمان وغيرهم. هذا المزيج المختلط جعل البلجيكيين منفتحين على الثقافات الأخرى، وجعل من بروكسيل العاصمة مدينة كوسموبوليتية بامتياز، وساهم في ذلك بالطبع اختيارها لتكون عاصمة للاتحاد الأوربي.
رغم هذا الاهتمام بتعلم اللغات الأخرى لدى البلجيكيين، إلا أن حركة ترجمة الآداب الأخرى إلى اللغة الهولندية تسير على قدم وساق. لتصوروا معي الآتي: بلد أوروبي لا يزيد عدد سكانه على العشرة ملايين نسمة، في ثلاثة أقاليم رئيسية، لكل إقليم لغته المختلفة والمغايرة، لكن حين يتم مقارنة ما يترجم من كتب سنوياً في هذا البلد مع ما تترجمه البلدان العربية مجتمعة، يكون التفوق لهذا البلد الأوروبي الصغير. تلك هي بلجيكا، التي تبلغ مساحتها 13.512 كيلومترا مربعا، وتتحدث أقاليمها الثلاثة اللغات الهولندية (6 ملايين نسمة) والفرنسية (أربعة ملايين نسمة)، والألمانية (بضعة آلاف)، وإذا أضفنا إلى هذه الملايين الستة المتحدثة بالهولندية في بلجيكا سكان هولندا البالغ عددهم خمسة عشر مليون نسمة، يصبح مجموع المتحدثين باللغة الهولندية في أوروبا قرابة الواحد والعشرين مليون نسمة، وإذا أضفنا إلى هذا العدد سكان بعض المستعمرات الهولندية القديمة في آسيا (سورينام: التي كانت مستعمرة هولندية، إلى أن حصلت على استقلالها عام 1975)، فسوف يكون مجموع متحدثي الهولندية في العالم ما يقرب من الستة والعشرين مليون نسمة فقط!
في محاولتنا تلمس حركة ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الهولندية اليوم، نجد زيادة الاهتمام بترجمة الأدب العربي خلال العقود الأخيرة، وخصوصاً بعد حصول الروائي المصري نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب عام 1988.
قبل هذه الجائزة كانت غالبية الكتب العربية تنقل إلى اللغة الهولندية عبر لغات وسيطة، من أهمها الفرنسية والإنكليزية، وقليلة جداً هي الكتب التي ترجمت مباشرة عن العربية، وتمثلت هذه الترجمات في الكتب التي راجت آنذاك أو التي تقدم تصوراً كلاسيكيا عن العالم العربي، مثل كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي ترجم إلى الهولندية عن الفرنسية ونشر في أمستردام عام 1745. ومنذ ذلك التاريخ تعددت طبعات "ألف ليلة وليلة" لتؤكد تأثيرها الكبير في الثقافة الهولندية. لكن كان علينا أن ننتظر 254 عاماً كي تترجم "ألف ليلة وليلة" مباشرة عن اللغة العربية إلى الهولندية، وهو المجهود الذي قدمه المستشرق والمترجم الهولندي ريتشارد فان لوين في الفترة من 1993 حتى 1999. أما المترجمة الهولندية ريمكه كروك فترجمت كتاب "حي بن يقظان" لأبي بكر محمد بن طفيل عام 1985، والذي ترجم إلى الهولندية باعتباره روبنسون كروزويه العرب، وكذلك نقلت "طوق الحمامة" لابن حزم عام 1977 في ترجمة مباشرة عن اللغة العربية. ونقل ألبرت جان فان هوك رواية "الحرام" ليوسف إدريس عام 1988، وفي 1989 ترجم مارسيل فان ده بول "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، وفي العام نفسه اشترك ريتشارد فان لوين وديكا بوبنغا وهيلين كوسن في ترجمة رواية "التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ" للمصري محمد مستجاب.
وجاءت حوادث الحادي عشر من أيلول 2001 لتصنع بدورها طفرة أخرى في ترجمة الأدب العربي إلى الهولندية، هذه الطفرة التي لم تستمر طويلاً في تركيزها على الآداب، وإنما اتجهت إلى ترجمة كتب الإسلاميات سعياً منها إلى تقديم صورة عن الإسلام والمسلمين. وليس من المستغرب أن نشير هنا إلى المبيعات الضخمة التي حققتها الترجمة الهولندية للقرآن الكريم في هولندا وبلجيكا عقب التفجيرات التي شهدتها مدينة نيويورك، وأصبح من المعتاد أن تجد كتاباً رديئاً لكاتبة مجهولة من هولندا أو بلجيكا يتصدر قوائم الأكثر مبيعاً لا لشيء إلا لأن كاتبته تسرد فيه قصة زواجها من مسلم مغربي أو إيراني أو مصري أو سعودي، ومن ثم بدأت تطغى على حركة ترجمة الأدب العربي موجة الكتب التي تتحدث عن الإسلام في شكل غير علمي أو أكاديمي.
أواخر عام 2005 منحت مؤسسة الآداب الهولندية جائزة الترجمة التي تعطى سنوياً، للمترجمين ريتشارد فان لوين (من مواليد 1955) وديكا بوبنغا (من مواليد 1956)، عن مجمل ترجماتهما من العربية إلى الهولندية. جاء في تقرير لجنة تحكيم الجائزة التي تعد الأشهر في هولندا: "تمنح الجائزة هذه السنة لهذين المترجمين لأنهما فتحا باباً جديداً على الآداب العربية وعلى عالم بأكمله ربما كنا نجهل ما به من ثراء". كان ريتشارد فان لوين أول من ترجم "ألف ليلة وليلة" مباشرة من العربية إلى الهولندية بين عامي 1993 و1999، كما ترجم "الرحلة" لابن بطوطة (1990)، لكن مساهمته لم تتوقف فقط على الآداب القديمة، بل نحا منحى حداثياً مع رفيقه بوبنغا حين نقلا من العربية مباشرة العديد من الكتاب العرب الحديثين، في مقدمهم نجيب محفوظ، الذي ترجم له فان لوين الثلاثية: "بين القصرين"، "قصر الشوق"، "السكرية" (1990 – 1991(، وأكثر من عشرة كتب أخرى لنجيب محفوظ تنوعت بين الرواية والقصة القصيرة من بينها: "ثرثرة فوق النيل" (1994)، "أولاد حارتنا" (1999)، "ميرامار" (2004)، "المسجد في الحارة" (1997)، "الطريق" (1989)، كذلك ترجم فان لوين العديد من مؤلفات الكتاب العرب الآخرين مباشرة عن العربية، بينها "الغريب" (1991) ليوسف إدريس، "خالتي صفية والدير" (2000) لبهاء طاهر، "أيام الإنسان السبعة" (1984) لعبد الحكيم قاسم، "عزيزي السيد كاواباتا" (1995) لرشيد الضعيف، "يالو" (2004) لإلياس خوري، "الصبار" (1982) لسحر خليفة و"زهرة الشمس"، "صرخة النيل" (1985) للطيب صالح، "نزيف الحجر" (1997) لإبراهيم الكوني، "حجر الضحك" (1996) لهدى بركات، "ذاكرة للنسيان" (1996) لمحمود درويش، "حملة تفتيش" (1996) للطيفة الزيات، و"الوطن" (1996) لحميدة نعنع، وغيرها.
من ناحية أخرى أعطيت جائزة الترجمة لريتشارد فان لوين وديكا بوبنغا لاشتراكهما في ترجمة العديد من الأعمال العربية. وإذا كنا قدمنا أعلاه صورة عن إنجاز فان لوين في الترجمة من العربية، فإن رفيقته ديكا بوبنغا قدمت هي الأخرى العديد من الترجمات التي انحازت فيها إلى عوالم المبدعات العربيات، فقد ترجمت ست روايات للكاتبة اللبنانية حنان الشيخ: "مسك الغزال" (1994)، "نساء بين السماء والرمل" (1996)، "بريد بيروت" (1997)، "أكنس الشمس عن السطوح" (2000)، "إنها لندن يا عزيزي" (2003)، "حكاية زهرة" (2004)، كما ترجمت للمصرية سلوى بكر ثلاث روايات: "في انتظار الشمس" (2000)، "العربة الذهبية" (1999)، "لمحة معارضة" (1992)، كما ترجمت للمصرية نوال السعداوي العديد من الكتب منها "الحريم الأوروبي" (2001) لفاطمة المرنيسي، و"دنيا زاد" (2000) لمي التلمساني، و"من مذكرات امرأة عنيدة" (1993) لسحر خليفة، كما ترجمت رواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1993) لإميل حبيبي، و"بيضة النعامة" لرؤوف مسعد. وبالطبع كان لنجيب محفوظ نصيب من مجهوداتها حيث ترجمت له روايتي "القاهرة الجديدة" (1998)، و"بداية ونهاية" (2002). وتضم قائمة ترجمات فان لوين وبوبنغا العديد من الأسماء العربية الأخرى، مثل: طه حسين، هدى شعراوي، لطيفة الزيات، يوسف إدريس، عبد الحكيم قاسم، محمد مستجاب (مصر)، غسان كنفاني، مريد البرغوثي (فلسطين)، محمد شكري، ليلى أبو زيد (المغرب)، عالية ممدوح (العراق)، إبراهيم الكوني (ليبيا)، عبد الرحمن منيف (السعودية). كما نجد لدى مترجمين آخرين أسماء عربية أخرى مثل: نصر حامد أبو زيد، ليانة بدر، رنا قباني، بلقيس حميد حسن، عبد الرحمن القصيبي، فدوى مالطي دوغلاس، سلوى مقدادي نشاشيبي، سهى الصباغ، إقبال بركة، سميح القاسم، وغيرهم.
ثمة كتاب عرب آخرون ترجمت أعمالهم إلى الهولندية من الفرنسية والإنكليزية، مثل المغربي الطاهر بن جلون الذي ترجمت له أكثر من عشرين رواية عن الفرنسية، وكذلك ترجم العديد من كتب فاطمة المرنيسي ومليكة مقدم وآسيا جبار، وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. وترجم لأمين معلوف كتاباه "ليون الأفريقي" (1987) و"قرن دون نساء" (2005). ويمتلك هؤلاء شهرة واسعة في اللغة الهولندية، كما تضم قائمة الكتب التي ترجمت عن الفرنسية مباشرة أسماء أخرى منها ياسمينا خضرا (الجزائر)، وأحمد أبو دهمان (السعودية)، وعن الإنكليزية ترجمت بعض الأسماء الأخرى من بينها هدى شعراوي وعبد الحميد عمار وليلى عبدالله.
وعلى الرغم من وجود دارين كبيرتين للنشر في هولندا، تركزان على ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الهولندية وهما دار "بولاق" ودار "ده خوس"، فإننا لا نستطيع أن نزعم بأن لديهما مشروعاً واضحاً لنقل إبداعات العالم العربي إلى اللغة الهولندية. فعلى الرغم من أهمية ما ترجم وتم نشره في هاتين الدارين، إلا أن ذلك يتم بعشوائية تمليها السوق ورواج الكتب في لغتها الأصلية. ويربط المستشرق البلجيكي الشاب فرانك أولبريخت الاهتمام بترجمة الأدب العربي إلى الهولندية بحصول الروائي نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب، مشيراً إلى أن طغيان الإسلاميات على الآداب عقب حوادث أيلول 2001 والتفجيرات التي ضربت العاصمة الأسبانية مدريد ومن بعدها العاصمة البريطانية لندن، شيء مبرر تماماً، "فالقارئ الهولندي أو البلجيكي الذي استيقظ صباح أحد أيام شهر تشرين الثاني العام 2004 على مقتل المخرج الهولندي تيو فان غوغ بطعنة سكين من شاب مغربي متعصب دينياً، سعى بعد هذا الحادث إلى البحث عن كتب تقدم له صورة ما عن هذا الدين الذي باسمه قتل مخرج من بلاده، والتقطت دور النشر في هولندا وبلجكيا هذا الخيط وبدأت بترجمة العديد من الكتب التي تتناول الإسلام والشرائع الإسلامية، لكن هذا الاهتمام بترجمة الإسلاميات لم يلغ اهتمام القارئ البلجيكي والهولندي بتتبع الجديد في الأدب العربي".
أما الروائي والكاتب الهولندي المغربي الأصل حفيظ بوعزة والذي ترجم الكثير من الشعر العربي القديم إلى الهولندية مباشرة عن العربية، منه "أجمل قصائد الحب عند العرب" (2000)، و"قصائد الإيروتيكا العربية" (2002)، فيقول حول حركة الترجمة إلى الهولندية: "المأزق الحقيقي في الترجمات الموجودة حالياً في اللغة الهولندية للأدب العربي هي أنها لا تقدم الصورة الحقيقة لراهن الإبداع العربي، لا على مستوى الرواية ولا على مستوى الشعر ولا في دراسات الأديان. ما يقدم من ترجمات ما هو إلا نظرة المستشرق للمنطقة العربية، وللشخصية العربية وما تمثله من كليشيهات عفى عليها الزمن. من هنا كان سعيي الشخصي لترجمة بعض من عيون الشعر العربي القديم إلى اللغة الهولندية. ففي ظل سيادة الصورة الخاطئة عن الثقافة العربية، قدمت إلى القارئ الهولندي بعض ترجمات قصائد الحب والإيروتيكا العربية القديمة لدى أبي نواس وأبي تمام وابن الخياط وابن الرومي وبشار بن برد وابن الحجاج ومجنون ليلى وابن المعتز وابن زيدون وجميل بثينة وعمر بن أبي ربيعة وابن خفاجة. كنت أحاول أن أقول للقارئ الهولندي إن الثقافة العربية لم تنتج ما تظنونه من انغلاق، بل هي في الأصل صاحبة الريادة في الكتابة المنفتحة على أفاق لا ترد لكم على بال".
ختاما، ما من شك في أن حركة ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الهولندية لم تزل تعاني العديد من الثغر، وخصوصاً في غياب الدعم المباشر من البلدان العربية في هذا المجال، فغالبية الترجمات التي تتم إما يقف وراءها مستشرق نشط ومحب للغة التي ينقل عنها كما رأينا في حالتي ريتشارد فان لوين وديكا بوبنغا، وإما تتحكم بها رغبات دور النشر التي تسعى خلف الكتب التي تثير من حولها الكثير من البلبلة كما في حالة موجة الكتب التي تتناول الإسلام، أكثر مما تسعى إلى وضع الحقيقة في نصابها الصحيح.
النهار
الاثنين 14 آب 2006 -