اللحظة الأولى للقصيدة، كمفهوم زمني واضح الملامح، يُمسَكُ بخيوط ولادتها وموتها على عتبات الأحرف الأولى من نص القصيدة؛ هذه اللحظة ضمن هذا المفهوم من الصعب تحديدها برأيي، أو فصلها عن السياق العام لعملية الخلق التي يمر بها النص الشعري. فعملية ولادة النص الشعري في امتدادها الزمني، تتمحور حول عدة دوائر زمنية متداخلة فيما بينها، تشكل الفكرة المركز الرئيسي لها ونقطة انطلاقتها.
أرى رحلة القصيدة تبدأ من عقل الشاعر لتمر عبر محطات الحواس محاولةً الوصول في نهاية الطريق إلى عقل القارئ. حتى لو كانت القصيدة تستثمر ضمن رحلتها هذه، تفاعل الحواس الحاد مع توتر اللغة وقدراتها الإيحائية اللامتناهية، فهي في النهاية تسعى لفهمٍ وتصور عقلي ما في ذهن القارئ، يُعطيها قوامًا متماسكًا بعيدًا عن ضبابيات العواطف العرضة لعطب النسيان والتبخر.
ومن عقل الشاعر إذًا تولد الفكرة. الفكرة التي ستخرج من أجلها لغة القصيدة لتعبّر عنها كما لا يستطيعه أيّ جنس أدبي آخر. يمكن اعتبار اللحظة التي تولد فيها الفكرة هي لحظة الولادة الأولى لقصيدة مُحتَمَلة. تحاول الفكرة بعدها ،بكل ماتملكه من قوّة الإصرار على البقاء، التجسّد خارج ذاتها في نسيج لغوي يستند عليها. وكي يسمح الشاعر لهذا التجسد بالحصول من خلاله، يتمثل الفكرة في سراديب حواسه المرهفة، ويُلبسها تجربته الذاتية وعاطفته الخاصة في عملية إبداعية يصعب الإمساك بأطراف خيوطها المعقدة، ليولد في النهاية النص الشعري، والذي يخضع بعدها لعملية مُشابهة ( لكن بترتيب عكسي) على الطرف الآخر المُتلقي لهذا النص، أي القارئ.
متى تولد الفكرة إذًا ؟ الإجابة على هذا السؤال ستوصلنا إلى لحظة الإشراق الأولى. وتبقى عملية كتابة البيت الأول أو السطر الأول في أيّ نص شعري هي عملية لاحقة لفترة نضجٍ وتأمل مرتْ بها القصيدة في عقل الشاعر بشكل واعٍ ( أو غير واعٍ أحيانًا)، لايمكن تحديد فترتها الزمنية دائمًا، ولو أنه من الممكن في أحيانٍ كثيرة تتبع إشراقاتها الأولى إلى نقطة قريبة جدا من التحديد.
متى تولد فكرة القصيدة. يصعب على الشاعر أحيانًا معرفة ذلك بدقة. كم من القصائد بقيتْ تجول في رؤوس شعراء إلى أن تجسّدتْ قصائدَ عندما نضجتْ وتوفّرتْ لديها ولدى الشاعر شروط الكتابة الأمثل.
سأختم إجابتي هذه بتشبيهٍ أراه يوضّح ويساعد على تلخيص ما أردتُ قوله.
يمكننا اعتبار فكرة/احتمال نصٍ ما كلحظة تشكل الخلية الأولى للجنين في رحم أمه، وإذا استطاع الجنين إكمال نضجه حتى لحظة والخروج إلى العالم بصرخة ولادة مدوية، استطاعت الفكرة أن تكمل مسيرتها في رحم العقل نحو صرخة القصيدة.
أيّ اللحظتين، لحظة تشكل الخلية الأولى أم لحظة الصرخة الأولى، هي لحظة الإشراق الأولى الحقيقية ؟
يبقى للنقد ربّما الاهتمام بتفاصيل إجابةٍ كهذه.....
f.saad@almouhajer.com