رحلة الشاعر الأردني أمجد ناصر الذي فاز بجائزة محمد الماغوط في باريس أخيراً، تكاد تشابه تجارب المكتشفين ورواد العوالم المجهولة التي لم تطأها قدم بشرية من قبل. فهذا الشاعر الذي جاء بيروت يافعاً مطلع سبعينات القرن الفائت لم يكن يحمل على كتفيه تجربة شعرية أردنية ذات بال في مجال قصيدة النثر وإذا به يجد نفسه في أرض التجريب والمغامرة والسعي بلا توقف نحو الحداثة، في زمن كانت بيروت عاصمة الحداثة، العربية تشتبك بقوّة مع اليومي والاستراتيجي على السواء، وتبحث بشغف عن صور جديدة لعالم إبداعي يساهم فيه مبدعون أتوا من «الأطراف» العربية البعيدة.
قدّم أمجد ناصر، منذ مجموعته الشعرية الأولى، مقاربات شعرية مختلفة أضافت الى الفضاء الشعري المديني البالغ البهرجة والتزيين ألواناً من عوالم تنتمي إلى «هناك»، أي إلى روح الصحراء بما فيها من فردية وبما تمنحه من جاذبية الانتباه إلى حضور المخيلة وسلطتها على فن الشعر المتكئ أصلاً على علاقات وتراكيب هي ابنة المخيلة وهي قانونها في الوقت ذاته. سأظل أتذكر أن مجموعته الشعرية «رعاة العزلة» التي صدرت أواسط الثمانينات من القرن المنصرم فاجأت النقاد ومحبي الشعر بما حملت من نسيج جديد تماماً في تجربة قصيدة النثر العربية عموماً، وبما اختزنت كذلك من مناخات فيها الكثير من صور حياتنا، بشمولية مزجت الخاص الفردي بالعام التاريخي الذي يؤسسه الآخرون.
تلك المجموعة المنسوجة بعناية المتأمل ورهافة الشاعر فتحت أمام صاحبها أبواب التوغّل بحرية أكبر في تجربته الفنية، والتطلع بحرية أيضاً نحو مشهديات شعرية تتأسّس في لغة صارت تمتلك مشروعية مناوشة «المجهول» بجرأة وانفتاح. وتستفيد من التجريب في الساحة الشعرية العربية والعالمية ولو بدت في «النهاية» انها تكتب نفسها. قصيدة أمجد هي في هذا المعنى قصيدة عربية تتكئ على حضورها في ملمح الانتماء، وعلى حضورها أيضاً في السيرورة المحتدمة لقصيدة النثر العربية التي لا تبحث هنا أو هناك عن مبرّرات وجود بل هي تمتلك بجدارة أفق الذهاب إلى المجهول واليومي في آن واحد. ويقف أمجد ناصر بها ومعها في زاوية مضيئة أخذت تتحوّل إلى مكانة خاصة لشاعر بالغ الخصوصية لا يزال يحمل «صحراءه» الأردنية ويتنقّل بها في شوارع لندن واثقاً من أن ما تشيعه تلك الصحراء من معان ومن عوالم هو طابع بريد إنساني يتعرّف إليه ويعشقه قراء كثيرون هنا وهناك.
بين أبناء جيله جميعاً يحمل أمجد ناصر اسماً آخر غير ذلك الذي منحته اياه عائلته في مدينة «المفرق» الأردنية، وهو الاسم الذي اختاره بنفسه عند التوقيع على القصيدة البيروتية الأولى. شيء ما يشبه رغبة داخلية في ولادة جديدة تنتمي هذه المرّة إلى روح مدينة كانت هي الثورة والتغيير، وكانت أيضاً الفعل الإبداعي والجموح الثقافي في زمن ركود عربي شامل يتطلع إلى قادم من هناك يمكن أن تحقّقه صحفها وكتبها وأحزابها.
ليس بالاسم وحده ولكن بإشكالية الجغرافيا أيضاً، فهذا الشاعر الأردني القادم من «المفرق» الذي يحمل الجنسية البريطانية هو أيضاً ممتد في بلاد الشام. لقد أثار انتباهي ذات سنة أن يكون أبوه أردنياً وأن يكون عمّه سورياً من «تل شهاب» القريبة من مدينة درعاً.
من هذه وتلك تجيء قصيدته كما تجيء انتباهاته الشعرية الشغوفة حدّ الإبداع بالجزئي، البسيط واللامرئي من تفاصيل العيش فتحقق جمالياتها.
الحياة
01/02/2007