كأنك تدخل الحكاية من نافذة قصية .
ليس باباً ما يفتحه أمامك سعود قبيلات كي تدخل عالم المشي ، إنها إلتفاف على الحياة، محاولة " مشبوهة" في عرف الذين إعتادوا ركوب السيارات كي يرتكبوا حماقات تؤدي إلى حوادث سير لا يحمد عقباها. ومن قال إن خراب الحافلة تلك، كان صدفة، أو محض وهم راود الرجل الماشي، ولا أدري للآن إن كان سعود نفسه يتحمل جزءاً من مسؤولية خراب الحافلة أم لا؟ بالنسبة لي، كقاريء رأيت أن مسؤولية جنائية تقع على عاتق الرجل، فهو مشاء بجدارة، وما ركوبه الحافلة إلا محاولة لتعطيل المواصلات والاتصالات وما شابه من وسائط النقل (وقد يكون هدف سعود المستقبلي تعطيل شبكة الإنترنت)، ولا ندري كيف يترك بحرية رجل تثير نصوصه أعلى درجات التوتر وترفع منسوب الأسى حتى تفيض على ضفاف الرو ، دون أن يتحفظ عليه أولي الأمر أو الأهل أو الجيران أو حتى المارة الذين يأرقهم بمروره المتعالي، كأنه لا يرى أحداً. وربما صعد الحافلة لهدف آخر، أكثر إيجابية مما قد يبدو في القراءات التشكيكية ، كأن تكون الحافلة حزب شيوعي تعطلت بعامل الزمن وإهترأت إطاراته من وعورة الطريق والمطبات ومزاجية السائق وثقته . يلازمك التوتر أثناء المشي معه، ثمة منعطفات تحرمك من نعمة الإستكانة والتنفس ، ومع كل خطوة إضافية لا بد وأن تنظر الى ساعتك، المؤشر المتفق عليه عملياً لحساب الزمن و"العمر حين يوغل في الزمن يفقد القدرة على الدهشة"، هذا ما كتبه مؤنس الرزاز في تقديمه لمشي، لكن سعود قبيلات يبني كل عوالمه القصصية في محاولة لإبقاء دهشته على حالها، يريد أن يوقف هذا التدفق المر للزمن، أو في المقابل يريد أن يحافظ على براءته وصدقه ودهشته ، وهذا بالطبع لن يكون. وهو يدرك ذلك جيداً وهنا تتحول أمنياته إلى حسرة مريرة . يبدو أن مهمات جسام كان الرجل يسعى لأجلها، وحينها خذلته الأداة (الحافلة) ، وخذله الزمن ( عمره الذي يمر)، وقلبه الخائن، القطعة اللحمية التي إتفق القوم على أنها البوصلة التي تشير إلى الحب، الذي لم يتعرف على إمرأته بعد الغياب، بين إمرأة غامضة ومشتهاة، وراحلة ربما، وبين إمرأة تنتظر عودته بصبر أزلي. إمرأة تقف عند حدود إشارته. لكني لا أعرف أن كانت هي نفسها من "خلعت حذاءها ورمت به الفراشة، فسحقتها"! المشكلة المفترضة الآن، عن ماذا سيكتب بعد سعود قبيلات؟ فكرت أيضاً أن ليس من حافلة أخرى، بعد تلك الكتابة، سيحظى بركوبها، وأن أرصفة كثيرة إستقالت عن دورها في إستقبال المشاة، واعتزلت أقدامهم، وأن نساءاً كثيرات سيصيبهن الضجر والوسواس من رجل يحاول ترميم الحياة، فيبدل الأيام، ويستحضر المقثاة ولا يقر بأن جده إستراح إلى الأبد، يقوم بكل ذلك بصوت خافت، وبحيادية أحياناً كثيرة. أهذا هو الإغتراب؟ الإحساس المفزع بعدم الثبات أو التأكد من أي شيء، من اللايقين السلبي في ما تريده الذات وما تسعى له، في تحديد الصواب والخطأ في شراء مادة ما أو غيرها من السوبرماركت. لكن أن يصل الأمر إلى المحاولة المستميتة التي يسعى لها سعود للقاء شخصه، للتعرف عليه، لمصالحته أو محاسبته على السنوات التي فرت والحنين الذي ما يزال يرفرف في أطراف ثيابه، في الإحساس بالقهر حتى التحول إلى تمثال يشهد الحياة ولا يعيشها، هنا تصبح تلك اللعبة اللغوية التي يأخذنا إليها سعود مهمة شاقة ومؤلمة . لا يجد قرينه الا خارج الدائرة الإجتماعية، عندما يعم الخواء أو عندما يلغي الآخر، عندما يصل إلى ذروة الضجر" في النهاية هدني التعب، فعدت إلى شقتي ، وارتميت على فراشي، ورحت أعوي مثل ذئب وحيد في الفلاة"، وليس من سبيل إلى الخلاص سوى الإنتحار أو التشظي" ومرت الأيام والشهور والسنوات الطوال، ووجدتني أنقسم إلى شخصين ، صارا يمشيان معاً ، ويعملان معاً، ويتسليان في أوقات الفراغ معاً". وقد يبدو أثناء قراءتك لقصص سعود قبيلات، أنك أمام كاتب يتهكم عليك ، ويرثي لحالك في آن واحد، كاتب يجد متعته في قض مضاجع الهادئين والباحثين عن السكينة وراحة الرأس ، كاتب يدرك جيداً أن الركون لبرهة واحدة هو إستسلام نهائي لوحش الوقت الهادر في أجسادنا، " وعندئذ .. عندئذ، فقط، أدركت، فزعاً، أن رنين الساعة الملحاح لم يكن، قط، في مكان آخر سوى جسدي!"
عن القدس العربي