هناك انقطاعان انطوت عليهما مسيرة الرؤية الشعرية لصلاح عبدالصبور إلى أن وصلت إلى مستقرها الذي أصبح المبدأ والمعاد في حركتها الممتدة في كل اتجاه، وذلك بما جعل منها رؤية شاملة في نهاية المطاف. الانقطاع الأول تمثّل في لحظة الانفصال عن الرومانسية، وقطع الحبل السُّري الذي كان يصل صلاح عبدالصبور الشاب اليافع بالأصوات العالية التي ظلّت نماذج تُحتذى في الأربعينات من القرن المنصرم، وتمثلت في شعر علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل، فضلاً عن نيتشه الذي عثر عليه صلاح في الترجمة القديمة التي كان نشرها فيلكس فارس، ولا شك في أن نيتشه قاد إلى جبران خليل جبران، والعكس صحيح بالقدر نفسه في مدى تبادل الأصوات، وتجاوب الأصداء الرومانسية التي لم تخل من ترجمات المنفلوطي لرواية «الشاعر» الشهيرة، ولم يكن من الغريب أن ينجذب صوت صلاح اليافع إلى هذه الأصوات التي هيمنت على سموات الفن الشعري الذي تطلع إليه، كما تطلع إلى ما يقع وراءه من سموات أخرى، ترجع القهقرى، لتشمل تقاليد القصيدة العمودية، أقصد إلى التقاليد التي دارت في مداراتها القصائد المكتوبة ما بين سنتي 1948-1949، وربما قبلها.
ويحدّثنا صلاح عبدالصبور نفسه أنه جمع أول مجموعة من شعره الباكر في كراس صغير، وكان هذا الكراس لا يحتوي إلا على قصيدة واحدة في غرض اجتماعي، بينما كان باقيه نفثات ذاتية صارخة، وكلها نفثات مراهق وجد بذرة موهبته الشعرية، وأدرك أنه ينتسب إلى قبيلة الشعراء التي تقدّم بقصائده الأولى قرباناً للدخول إلى عوالمها المغرقة في الذاتية وقد شجّعه على ذلك ما أخذ يمور بداخله منذ عامه الثالث عشر الذي كتب فيه:
«سئمت الحياة وعفت العمر/ وأنكرت مرّ القضا والقدر
ويقسو الزمان على العبقري/ أهذا جزاء أديب شعر؟
وشعري يقل ووهمي يخيب/ وعمري الثلاث وزدن العشر».
ولا غرابة في أن تمضي الأبيات في تفعيلة بحر المتقارب المعروف بتدفقه وسرعة إيقاعه، وكونه - إلى جانب المتدارك - مطية المبتدئين، وأول ما يلفت الانتباه في الأبيات هو المدى المسرف للذاتية التي ينطوي عليها الذين بدأوا حياتهم بقراءة كتابات المنفلوطي، واستجابوا عبراتها، وظنوا أنفسهم صدى لها، فمضوا في المدار المغلق لذواتهم التي لم تخل من قلق المراهقة، وتوحدها، وحزنها المستعار، فضلاً عن رغبة إثبات الذات التي يؤكدها المقطع الأخير بتحديد عام كتابتها في عمر الفتى الغضّ الذي انفجر بالشعر، غير قادر على كبح جماحه، فترك نفسه يسبح مع التيار المندفع الذي أوصله في عامه السادس عشر إلى أن يقول:
«أطلال حبي عزائي لو رضيت به/ فإننا في خدع الدهر سيان
كانت بساحك تلهو غير عابئة/ من صدر حاسدة في صدر ولهان
وكان في صدري المشبوب مغربها/ نشوى، كظامئة تسعى لظمآن
أحسو شذاها كما يحسو الأثيم هدى/ من السماء، وأحسو ثغرها الفاني
شبَّهتها بارتعاش الريح حين سرت/ في صحوة الفجر في دلّ وتحنانِ
لا بل جمال جلال الفن يلهب في/ نفسي سعيراً سرى مني لأوزاني
عشقتها صادقاً من مهجتي ودمي/ ولكنها الحب من زيفٍ وبهتان
كم كنت ألثمها في نشوتي فأرى/ في وجهها سحر مفتن وفنان
لكن قلبها سرّ حوى سبلاً/ كالتيه ضلّ بها فكري ووجداني
لكنها تركتني، يا لمهزلتي/ في الليل حبي، وعند الفجر هجراني».
وما نقلته هو بعض قصيدة طويلة متعددة المقاطع، تلفت الانتباه بصياغتها التي تمثلت حيل النظم القديم وبلاغته التي تردد أصداء الشعراء القدامى، وحرصهم على المقابلة والمجانسة... إلى آخر البيت الختامي الذي يوافق شعور الحب من طرف واحد، وإحساس الشاعر العاشق بمرارة الهجر الذي تركته الحبيبة فيه، والتعجب من عمى عينَيْ المحبوبة وقلبها عن سمو عاطفة الشاعر وعلو منزلته التي لا تدركها، فتهجره مباعدة ما بينه وبينها.
ويذكر صلاح أن أصحابه هلّلوا للقصيدة، وقارن بعضهم بينها وشعر شاعرهم الأثير في ذلك الوقت: محمود حسن إسماعيل، ويؤكد أنه يمكن أن نلمح في القصيدة خليطاً عجيباً من جبران والمنفلوطي ونيتشه، سادة فكره في ذلك الزمان الجميل الذي لا يحمل سوى براءة العابرين به من الذين يتوترون بين نهاية الصبا ويفاعة الرجولة، شاعرين أنهم كالملاّح التائه الذي صاغ علي محمود طه نموذجه الشهير، ومضى الشاعر الشاب في إثره، وأنتج شيئا من قبيل:
«طلع الصباح ولا صباح لشاعر/ أرسى على شط المساء سفينه
ورمى إلى الزمن العتي سلاحه/ وذرا على قمم الغناء لحونه
إني لماضٍ للفناء ومسلم/ ليد الردى أنفاسي الموهونة
وأنامل الجلاد أنت ضنينة/ هذا الذبيح إليك ساق فنونه».
ويقول صلاح عبدالصبور- في كتابه «حياتي في الشعر» - إنه ختم هذه المرحلة عام 1949 بقصيدة لمح هو فيها أصداء المتنبي العظيم الذي كان قد قرأه وفتن به، فكتب متوهِّماً أنه يسير على دربه قصيدة مطلعها:
«هنا كانت الدنيا وباحت لنا المنى/ بأسرارها، واخضلّ من مائها الوجد
هنا كم رعينا الحسن بالنظرة التي/ يلوح ندياً في محاجرها الصلد
حنانيك يا نفس، فأنت ألوفة/ هبي دمعة، هذي الرسوم لنا تبدو
تهاوى بها النجوى كطير ذبيحة/ عن العرش زيدت لا ترفّ ولا تشدو
ويمشي بها الحب الكسير مجرحاً/ وينزف منه الإثم واليأس والحقد
ويجثو على أطلالها الشك ناعباً/ ملاحن في أجوافها يصرخ الرعد».
وتوقف الشعر بعد هذه القصيدة، نتيجة الحيرة الفكرية التي أخذت تعصف بالطالب الجامعي الذي أصابه دوار التيارات والأسماء الجديدة التي أخذ يتعرف إليها في الفكر وفي الشعر، وزادت من حدة الدوار قسوة الظروف السياسية في ذلك الوقت، وحيرة الطلاب الشبان بين كونهم مثقفين يريدون أن يستبدلوا بشروط الضرورة آفاق الحرية، وبصفتهم مواطنين يروّعهم غياب العدل الاجتماعي من حولهم، وكثرة المعذبين في الأرض الذين لا يجدون ما ينفقون، أو يشبعهم من جوع، مقابل القلة القليلة من الذين يجدون ما لا ينفقون، ولا تعنيهم أوضاع القهر والظلم التي يعيشها معظم الشعب الذي حاصرته أغلال الظلم والفساد.
وكان لا بد من الاختيار بين اليمين الذي وقف في أقصاه «الإخوان المسلمون» بفصائلهم التي ملأت الحياة الجامعية هتافاً بشعاراتهم المعروفة، أو اليسار الذي وقفت في أقصاه الفصائل الماركسية بشعاراتها التي لا تخلو من تمجيد الخبز والحرية، أو الوعد بوطن حر وشعب سعيد، وكان العدل الاجتماعي هو الوجه الآخر من الواقعية الاشتراكية في الأدب، وطبيعي أن ينجذب صلاح الشاب إلى كل ما يستجيب نوازع التمرد الطبيعي في سني عمره الثائرة، بصفته ابناً من أبناء البرجوازية الصغيرة التي تنحاز إما إلى اليمين، أو إلى اليسار، بحسب تركيبتها العقلية، والرفقة التي هي جماعة الأصدقاء وزملاء الدراسة، ولذلك أقبل صلاح على اليسار الذي فتح عينيه على حركات الفن الملازمة وتياراته، فأقبل على السريالية، والوجودية، وشعراء الحداثة (إليوت، ريلكه، بودلير، وغيرهم). وأخذت الأفكار والأسماء والمصطلحات الجديدة تلمع كالبرق في السموات الساذجة الصافية له ولرفاقه: عبدالغفار مكاوي، وأحمد كمال زكي، وفاروق خورشيد، وعبدالرحمن فهمي، وكان محمود أمين العالم قد سبقهم إلى التخرج بأعوام قليلة، ويعمل في مكتبة الجامعة، ويكتب أشعاراً غامضة.
وطبيعي أن تفتن السريالية الفتى الذي تمرد على الشعر، أو تمرد عليه الشعر نتيجة الدوّامات المعرفية التي وجد نفسه دائراً فيها بلا هدف، فيكتب سنة 1951 مقطعة، تحمل بصمات السريالية، ومنها محاولة الإفلات من سيطرة القافية الموحّدة والوزن الواحد. وتمضي المقطعة على النحو الآتي:
«رباه ما ذي الليلة الباردة/ نجومها آفلة خامدة/ وريحها معولة شاردة/ أسير في طريقي/ قفر من الرفيق/ ألوك لحن لوعة/ ممزق العروق/ وصحوتي غارقة/ في مهمةٍ سحيق/ قنينة مهشمة/ ولقمة مسممة/ وخطوة محطَّمة/ وصخرة ميمَّمة/ تلوح خلف الأكمة/ مشنقة مدمَّمة».
هل يمكن أن نعد هذه المقطعة سريالية؟ الإجابة لن تكون بالإيجاب في الغالب، لأن العقل الذي يسعى إلى أن يفرض نظامه لا يختفي حتى وراء محاولة الخروج المتعمّد على منطقه، بل إن تعمد الخروج، في ذاته، يبعدنا عن السريالية أكثر مما يقربنا إليها، ولكنه، وهذا هو الأهم، علامة على بداية انفصال دالّ عن المسار السابق الذي تداخلت فيه أصوات القدماء (مثل المتنبي وأبو العلاء) بأصوات المعاصرين (أمثال علي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وإبراهيم ناجي)، وأضف إليهم دوافع الحداثة التي انطوى عليها (نيتشه، وجبران).
وما لم يذكره صلاح، في حديثه عن بداياته، أنه كتب قصائد رومانسية في القالب العمودي أحياناً مع تنويعات القافية والسير بحسب نظام القافية المتحدة في كل مقطع، مثل قصيدة «سوناتا» التي تمضي قوافيها بحسب نظام هو تنويع على السونيت (Sonnet) الإيطالية الأصل من دون التزام بعدد الأبيات أو نظم التقفية التي تلتزم بنظام المقطعين اللذين لا يجاوزان أربعة عشر بيتاً. فسوناتا صلاح تتكون من ثلاثة مقاطع، المقطع الأول والثاني يتكون كل منهما من ثمانية أبيات، بينما يتكون المقطع الأخير من اثني عشر بيتاً، من غير التزام بنظام محدد من أنظمة السونيت الغربية أو تجلياتها، والمقطع الأول دعوة للحبيبة كي ترحل مع الشاعر إلى قرية لم يطأها البشر، أما المقطع الثاني فوصف حالم لسرير الحبيبة وجيدها وكفيها وثوبها، وذلك في دائرة الحلم الذي يبدأ المقطع الأخير بصدمة تردّ الشاعر إلى عالم الواقع، حيث يغمر النور وجه الوجود، ويدوي القطار ويموج الطريق زحاماً من الأرض حتى السماء، حيث يمضي البشر في معركة البله والأغبياء، لأجل الرغيف وظل وريف، وينتهي المقطع بمشاهدة المحبوبة من جديد، وعدم الافتراق في الزحام البليد، فالشاعر يتمسك بها ويقبِّل ثوبها لأنها رجاؤه الوحيد في دنيا الواقع، وهي نهاية، تحولت – في ما بعد - إلى بذرة تفرعت عنها قصائد، مثل قصيدة «أحلام الفارس القديم» التي تنتهي بتأكيد أن حب الحبيبة هو وحده الذي يعيد العاشق إلى الطهارة من دون حساب الربح والخسارة، وقصيدة «سيدة من فيينا» التي تنتهي علاقة الحب الشاعرية التي توهجت طوال الليل، محمَّلة بعبق صوفي، إلى عالم نقيض يزدحم بالبشر المسرعين الخطو نحو الموت، المسرعين الخطو نحو الخبز والمؤونة، وهو عالم يذكِّرنا بمعركة البله والأغبياء لأجل الرغيف وظل وريف، ويبدو أن هذا الجانب هو الذي جعل الشاعر يبقى على «سوناتا» ولا يحذفها في الطبعات اللاحقة من «الناس في بلادي». وهو ما فعل نقيضه مع قصيدة «الرحلة» العمودية المتحدة الوزن والقافية التي تصوّر رحلة المعنى إلى الشاعر، وذلك في السياق المتكرر والمتبادل لرحلة الشاعر إلى المعنى، أو العكس.
وحذف الشاعر، في مقابل ذلك، قصيدة «الوافد الجديد» التي تذكر على نحو مباشر بعلي محمود طه «الملاح الحائر» الذي يستبدل به صلاح عبدالصبور ملاحاً من نوع موازٍ: زورقه جانح كسير، وشراعه به حزون (= غليظ). وتمضي القصيدة على نظام المثنى الذي تتحد فيه القافية كل بيتين إلى أن تأتي النهاية التي تظل مثل بقية القصيدة ساذجة المعنى، هزيلة الصياغة، وعلى النقيض من «الوافد الجديد» يبقى صلاح على «الإله الصغير» التي لا تخلو من أنفاس إبراهيم ناجي، والتي يمكن أن نردَّ مطلعها:
«كان لي يوماً إله، وملاذي كان بيته/ قال لي إن طريق الورد وعر فارتقيته».
إلى قصيدة ناجي «كبرياء» التي تبدأ على النحو الآتي:
«وحبيب كان دنيا أملي/ حبه المحراب والكعبة بيته
من مشى يوماً على الورد له/ فطريقي كان شوطاً مشيته».
وقد أبقى الشاعر في الطبعات اللاحقة من «الناس في بلادي» على قصيدة «ذكريات» التي مطلعها:
«ذات مساء مظلم كأنه سرداب/ أطل من كوى الجدار وجهه المرتاب».
وفعل الشيء نفسه في قصيدة «حياتي وعود». واستبعد، في مقابل ذلك قصيدة «غزلية» التي تمضي قوافيها على نظام التثنية التي تتحد فيها القافية كل بيتين، ويبدو أن إسراف القصيدة في الهشاشة العاطفية هو الذي دفع الشاعر إلى حذفها من الطبعات اللاحقة، وهو الأمر الذي ينطبق على «منحدر الثلج». وهي غزلية أخرى مرتبكة الصوغ، بادية الضعف، تضع القافية حيثما اتفق، من دون ضرورة داخلية، وقد حدث الأمر نفسه لقصيدة «الوعد الأخير» للأسباب نفسها في ما يبدو.
الحياة
26/09/2007