من شعور دفين بالفقدان، ووعي مأسوي بفداحة العيش في الظلّ، تولد قصيدة الشاعرة السورية الراحلة سنية صالح زوجة الشاعر محمد الماغوط. من ضبابية حلم مستحيل، أو كَدَر رغبة لا تتحقّق، تتوالد صورها الشعرية وتتواتر؛ ومن لحظة مغيب قصوى، تهبط كناياتها، حارة، ملتهبة، لتشعل ليل القصيدة. قصيدة حزينة، متألمة، ومتأمّلة، ترمق العالم بنظرة رثائية، وتزيح القناع عن الجوهر القاتم للوجود. قصيدة تعي عبثية الأشياء في الزمن، واتساع الخواء الكوني، الذي يتغلغل في ثنايا الروح، ويزيد البياضَ إبهاماً. أليس الشعر، كما تقول في إحدى مقدماتها: «عملية عبور النار، واشتعال الجسد والعقل والمخيلة بحمّى الكشف». من هذا الكشف، تحملُ سنية صالح ألمَها إلى أتون القصيدة، تدون فكرتها عن العطب الكوني، وتترجم يأسها اعترافات وجدانية حارة، ينصهر فيها الواقعي بالسريالي، والرمزي بالانطباعي. ولأنها شاعرة «فطرة» بامتياز، ولا يهمّها الشكل بذاته، فإن حسّ البنية في قصيدتها يغيب، وتتراجع الصنعة الفنية ليحضر وهج ذاك الألم الخفي فحسب. أحياناً تكون العلّة في الأنا، التي لا تهدأ لحظة عن الحلم، وأحياناً في اللغة، التي تحرن وتعاند وتراوغ، وطوراً في الثقافة، التي تكرّر آليات بطشها، وتعيد تأبيد مفاهيم وقيم آفلة، وأحياناً في التاريخ المدون ذاته، القائم على القسوة والعنف.
في شعرها يتفتّح ذاك الألم، ويورق نضراً، مشعاً، لاذعاً. وكما تشير خالدة سعيد، شقيقة الشاعرة، في تقديمها للأعمال الكاملة، التي رأت النور حديثاً، وصدرت عن وزارة الثقافة السورية، 2007، فإن سنية صالح طالما ربطت ولادتها بخيبة وفقدان. وتروي سعيد، في مقدمتها البديعة التي تمزج الشخصي بالفكري، والوجداني بالنقدي، كيف أن سنية كانت قليلة الكلام، حتى سن العاشرة، لكنّ صمتها لم يكن «خالياً أو مقفراً»، بل صمت من «رأى ولم يجد لما رأى تعبيراً». بيد أن سنية سرعان ما تجد طريقة لفك عقدة لسانها، وتفوز بجائزة شعرية لأفضل قصيدة عام 1961، بعنوان «جسد السماء»، كانت قد نظّمتها جريدة النهار، ومنحتها الجائزة لجنةٌ مؤلفةٌ من خمسة شعراء هم شوقي أبي شقرا وصلاح ستيتية، وفؤاد رفقة وأدونيس وأنسي الحاج الذي كان مشرفاً على القسم الأدبي آنذاك، حيث وصف لغة القصيدة بقوله إنّ «نزعتها شخصية، وتكنيكها مناخي أكثر منه عضوي». وقد كان لافتاً الصوت الشعري المتفرد لسنية صالح في تلك القصيدة الغنائية الحزينة، والتي قال عنها عباس بيضون، بعد مرور ربع قرن، في جريدة السفير، عام 1985، إنها «يتيمة من يتيمات الشعر الحديث ليس لها أب فارع ولا نسب قوي». هذا التفرّد ستحمله الشاعرة معها في رحلة عمرها القصيرة، وتحافظ على نبرة شخصية، ذاتية، تشيع مناخاً نفسياً، آسراً، وهذا ما يلمسه القارئ بعد الانتهاء من قراءة دواوينها التي جاءت مرتبةً في (الأعمال الكاملة) تبعاً لتسلسل نشرها: «الزمان الضيق» عام 1964، و «حبر الإعدام عام 1970، و «قصائد»، عام 1980، و «ذكر الورد، عام 1988، الذي ظهر بعد وفاتها، إضافة إلى قسم جاء تحت عنوان «قصائد غير منشورة»، وضم خمس قصائد، تبرز من بينها قصيدة غير مكتملة بعنوان «ثوب الهواء»، تكشف مقدرة سنية العالية في توظيف الرّمز، والتعبير عن التجربة الداخلية بالقليل من التلميح والإيماء: «انقضضتُ على فأس المياه/ وغاص خنجر الغبار في صدري،/ ما أسرع فرس الأحلام في الفرار/ وبراري المستحيل تتشقّق».
لكن تشقّق الرغبات، والركض اليائس خلف فرس الأحلام، لم يكن وليد اللحظة، فقد بدأ حقاً مع قصيدة «جسد السماء» التي تفتتح ديوانها الأول «الزمان الضيق»، وهنا نرى سنية تعلن عن رغبتها بإماطة اللثام عن صمتها، وكأنّ الأوان قد حان لتعبّر عما تراه، متخطية وعورة الخطاب الأيديولوجي السائد، وتركز على يأسها الشخصي، وتطلق نبوءة مبكرة عن ليل بدأ يزحف نحوها بخطى واثقة: «ها أنا أتدحرج كالحصى إلى القاع/ فليكن الليل آخر المطاف». على هذا المنوال، تتوالى قصائد الديوان الأول، حارة، ذاتية، داكنة، ترثي وتدين وتستشرف. في قصيدة «أغنية زنجية» من الديوان ذاته، تصل نبرة الاعتراف أوجها، وتتكلم سنية بلسان الأنثى المضطهدة، التي تجد في الشعر ملاذاً للتعبير عن تاريخ طويل من القمع والإقصاء: «أشمّ رائحة احتراقي/ آتيةً من غابة الموت/ آتيةً تهدرُ على الدروب/ وأنا وحدي الضحية.» إن شعور الضحية لازمها طوال سني حياتها، كما يشير الشاعر عبده وازن في مقال له عن علاقة سنية صالح بزوجها الشاعر محمد الماغوط، حيث أنها عاشت «ضحية شهرته ومزاجاته المتقلبة وطباعه الحادة». والغريب أن سنية صالح كانت تميل إلى التكتم على هذا العذاب اليومي، بل وتعلن نقيضَه، في أكثر من مناسبة، ففي حوار أجرته معها مجلة الحسناء عام 1980، تعلن أنها أحبّت الماغوط «بعنف وصدق وإخلاص لا مثيل له،» ثمّ تضيف، «لقد غزاني بالشعر في وقت لم يكن يملك فيه إلاّ الشعر». هذه العلاقة الملتبسة بدأت عام 1963، إبان لقائها وارتباطها به، واستمرت حتى وفاتها عام 1985. وتذكّرنا هذه العلاقة بمحنة الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي انتحرت في سن الثلاثين (عام 1963)، وكانت تربطها علاقة عاصفة بزوجها الشاعر الإنكليزي الراحل تيد هيوز.
النبرة الرثائية
في ديوان سنية صالح الثاني «حبر الإعدام» استمرار للنبرة الرثائية عينها، واتكاء على المكاشفة التعبيرية، وانفتاح على الذات وتناقضاتها المزمنة، ووقوع في شرك الكينونة بصفتها محنةً وبلوى، حيث تستحضر الشاعرة مناخات كئيبة تذكّر بعوالم أبطال سارتر وكامو، وشعور هؤلاء بالغثيان من محض وجودهم في العالم. في قصيدة «الموت القاطع»، على سبيل المثال، تعبر الشاعرة عن مأزقها كضحية أزلية، حيث الموت يتربّص لها وراء الباب: «يا موت،/ يا من تنتظرني على الأبواب/ حاملاً سيفك القاطع/ اتبعني... اتبعني/ أنا الضحية التي تقتفي أثرك». والعجيب أن رؤيا الموت ستلاحقها، لتشكّل أرضية متحركة للعديد من قصائدها. في ديوانها الثالث «قصائد»، تتنوع المواضيع وتتشعّب، وتختلط نبرة الهجاء في قصائد مثل «جرذان التاريخ» أو «خريف الحرية»، بنبرة البوح الدافئة، كما في قصيدة «شام، أطلقي سراح الليل»، التي تترجم شعورها بأمومة خرافية. كما يضم هذا الديوان قصيدتها الطويلة، الرائعة، «وداعاً يا زنوبيا»، التي تتماهى فيها مع شخصية الملكة التدمرية التي استباح الرومان مملكتها، واقتادوها إلى روما، مكبلة بالقيود. في ديوانها الرابع، (ذكر الورد)، آخر دواوينها، والذي كتبته أثناء مرضها، يهيمن هاجس الفناء، وتعلو الغنائية الشجية لتصل ذروتها، ويشف البوح، وتصل التلقائية درجة عالية من الإدهاش. طوراً نراها تستعيد صورة ابنتها، كما في قولها، «سلافة تهزّ شجرة الغيوم/ فتسقط الدموع كلّها/ الدموع التي أغفلها التاريخ»، وتارة تعيد تذكيرنا بصمتها القديم، الذي رافقها طوال سني حياتها الأولى، كأن تقول في قصيدة «رامبو الألف وبودلير العشرين»: لماذا لا تصغون إلي؟/ لساني الثقيل سيذهلكم/ إذا ما انطلق مرّة واحدة». وقد انطلق لسانها، كاشفاً عن فصاحة سلسة، صافية، تدهشنا حرارته وبدائيته، حيث الأنا تمثل بؤرة اعتراف في كل قصيدة تقريباً. في مقدمة كتبتها خصيصاً لديوان «ذكر الورد»، تشرح الشاعرة رؤيتها للقصيدة، ولفن الشعر بعامة، كاشفة عن ثقافة عميقة، ووعي مدهش بتقنيات الكتابة الشعرية. وهي في هذا تمثل نقيض الماغوط، الذي طالما نبذ الثقافة ورفض حديث الكتب والنظريات. وإذا كانت تتقاطع مع الماغوط في تمسّكها بالتلقائية، واحترام الومضة الأولى، إلا أنها تختلف عنه من حيث فهمها لأهمية الدُربة والثقافة، وضرورة وعي تلك الآليات الشعورية واللاشعورية التي تشكّل جوهر العمل الأدبي. أليست القصيدة، كما تقول في مقدمتها، فاعلية قائمة على الصور والاستعارات والرموز، وتنهض «على إضاءات حلمية، تقوى لحظة اضطرام الطاقة التخيلية أو لحظة الانفجار الداخلي»، كما أنها تقوم على الحلم ذاته بما أن «الحلم، هو بشكل ما، واقع آخر، واقع شفاف هيولي، واقع ممكن، بل هو رحم تتوالد فيه الوقائع». هذا يعيدنا إلى مقدمتها لأعمال الماغوط، بعنوان «طفولة بريئة وإرهاب مسن»، والتي تمثل ركيزة أساسية في فهم حياة الماغوط وشعره، وفيها نقرأ جملتها الافتتاحية الشهيرة: «مأساةُ محمد الماغوط أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط». وتبرز موهبة سنية النقدية أيضاً في مراجعات قليلة، أصيلة ومبدعة، لبعض نصوص أدونيس وحيدر حيدر، فضلاً عن قراءات ذكية حساسة في الأدب الإنكليزي لبعض أعمال همينغواي وتينيسي ويليامز، كانت تنشرها في مجلة «مواقف»، ومجلة «الأحد» البيروتية.
واللافت أن قراءاتها تبحث عن المتعة في الدرجة الأولى، وهي جمالية، شعرية، في جوهرها، لا يحكمها ناظم نقدي أو منهجي. فالشاعرة تعتمد على ذائقة عالية، وثقافة حاضرة دوماً. كما أنها تجد بعضاً من ذاتها في كل ما تقرأ. فشخصية لورا في مسرحية «حديقة الحيوانات الزجاجية» لتينيسي ويليامز، تشدّ انتباه سنية صالح بسبب ما تعانيه من ذعر داخلي في علاقتها مع العالم حولها، وما اختيارها العزلة المطبقة، بصحبة كائناتها الزجاجية البكماء، سوى فعل انسحاب من الواقع، يقترب من الانتحار البطيء. وتصف سنية حياة البطلة بقطعة زجاج شفاف «وقد مسّها الضوء فأضفى عليها تألقاً عابراً، لا هو بالحقيقي ولا هو بالدائم». ويكاد هذا الوصف ينطبق على حياة سنية ذاتها، التي اتسمت بهشاشة لا مثيل لها. كما تبرز موهبة الشاعرة النقدية أيضاً في بعض الحوارات القليلة التي أجرتها مع بعض شعراء تلك الفترة، كالحوار الذي أجرته عام 1971 في مجلة «مواقف» مع الشاعرين ممدوح عدوان ومحمد عفيفي مطر، حيث يفاجئنا أسلوبها المتدفق، وفكرها الوقّاد، ونقرأ تعريفاً بديعاً للقصيدة تقول فيه: «القصيدة هي في الهواء الطلق. تخرج وتدخلُ إلى الشاعر بحركة سرية، متخفية كالأرواح. تلزم لمن يتعرف إلى مسالكها عينا نبي».
بقي أن نشير إلى أن «الأعمال الكاملة»، التي جاءت في مجلد واحد، ضمّت أيضاً مجموعة قصصية يتيمة نشرتها سنية صالح عام 1982، بعنوان «الغبار». وهي تحوي سبع قصص قصيرة، تصفها خالدة سعيد، في المقدمة، بقدرتها على «التقاط الحركة ورسم تحولات السلوك وانقلاباته»، وتبيّن نفاذاً وقدرةً خاصّة «على تصوير المواقف والحالات والمشاعر الرجراجة المسنونة المرتبكة الواقفة فوق سراط التحول». وثمة أربع قصص أخرى، تُنشر للمرة الأولى، أُدرِجت تحت عنوان «قصص غير منشورة»، وبعضها يبدو غير مكتمل، من جهة انسجام الحبكة، أو اكتمال الشخصيات. هذا التنوع من شعر وقصة ونقد وخاطرة، يكشف النقاب عن موهبة سنية صالح الكبيرة، التي لم يُقدّر لها أن تأخذ حقّها من الدرس والتحليل والنقد، ولعلّ نشر أعمالها الكاملة الآن يمثل خطوة مهمة في إزاحة بعض الضباب الذي لفّ حياتها وشعرها، وكاد يطمس صوتها الرّيادي، بعد أن عاشت في الظلّ طويلاً، أسيرةَ مرضها العضال، وأسيرة الشهرة الطاغية لزوجها الشاعر محمد الماغوط .
الحياة
12/02/2007