شاعر في مبتدئه، بدأ كتابة الشعر الذي نصطلح عليه اليوم: ''الشعر العمودي'' شأن غيره من رواد الشعر الحر في بداياتهم: السياب في ''أزهار ذبلة'' والبياتي في ''ملائكة وشياطين'' ونازك الملائكة في ''عاشقة الليل''.. إلخ، ثم تحول إلى كتابة الشعر الحر فقصيدة النثر.
قال لي: ''أريد أن أسرّك سرّاً!''، قلت: ''خيراً إن شاء الله!''. قال: ''تأتيني أحياناً نوبات إبداعية شعرية في قالب الشعر العمودي، لكني أقمعها أو أكتبها من دون أن أنشرها''. قلت: ''لماذا؟'' قال: ''أخشى إن يقال إني أرتد إلى الشكل التقليدي!''. قلت: ومتى كان الشعر في قصيدة النثر أو في أي شكل تحديداً! ألا يوجد الشعر في الشكل التقليدي العربي منذ أقدم عصوره إلى الشعر لدى أحمد شوقي والرصافي والجواهري والأخطل الصغير وبدوي الجبل.. إلخ. ألا نجد الشعر في شعر نازك والسياب والبياتي وأدونيس وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي؟ ثم ألا نجد الشعر في الشعر المنثور وقصيدة النثر الشائعة اليوم، بل وفي كثير من النثر القديم والحديث.. وبالذات في نثر التوحيدي والمتصوفة أمثال ابن عربي والنفري والحلاج.. كما نجده في كثير من السرد الحديث - لا سيما في القصة القصيرة والرواية والمقامة والرسالة.. إلخ. ألا تلاحظ أنه في كثير من دواوين قصيدة النثر لا نجد الشعر في أكثر من 5% مما بين دفتي الكتاب؟ وهكذا أيضاً يمكن أن لا تجد الشعر إلا في أبيات قليلة من قصيدة قد تتجاوز المائة بيت من الشكل العمودي، أو في أسطر شحيحة من قصيدة حرة أو سواها.
وباختصار، هل تجد ثمة علاقة محددة للشعر بالشكل - أي شكل - أم إن الشعر يمكن أن يوجد في أي شكل - كما يمكن أن لا يوجد في أي شكل. إن عمر الشعر ما كان في شكل محدد دون سواه، منذ أن بدأ نثراً شعرياً، أو منذ أن نطق الإنسان شعراً أول مرة، ثم تطور عبر أشكال مختلفة: الغنائي الملحمي، الدرامي.. إلخ.
إن الشعر ليس في ما يكتبه الشاعر في هذا الشكل دون ذاك، لأن الشعر لا يحجز في سجن ''شكل''. إنه مثل النسيم العذب لا يمكن أن يقبض عليه أحد.
ولعله من أبسط الأمور فيما يميز الشعر - حسب هيغل - أن نقول: ''أو أن نصف طريقة الشعر في طرح الأشياء على أنها: تصويرية تشكيلية - تخييلية، بمعنى أن الشعر بطريقته التصويرية التشكيلية يتمثل الثروة الكلية مع المعنى الباطني وماهية ما يجري تصويره وتشكيله'' (1)، ولا علاقة لهذا بشكل دون آخر.
وإذا كانت القصيدة في عصور الشعر العربي الأولى قد اتخذت شكل ''الشكل العمودي'' - حسب مصطلح اليوم - فإن الشكل هذا، إنما جاء محاكاة للبيئة التي عاشوا فيها، وبتعبير آخر، إن ترتيب الأبيات الشعرية إنما جاء من قبيل التماثل لبيوت الشعر ''الخباء'' التي كانوا يقيمون فيها، وقد أبرز هذا حازم القرطاجني بتفصيل واف بين ما هو سماعي (أبيات الشعر) وما هو بصري (بيوت الشعر) قال: ''ولما قصدوا أن يجعلوا هيئات ترتيب الأقاويل الشعرية ونظام أوزانها متنزلة في إدراك السمع منزلة وضع البيوت وترتيباتها في إدراك البصر، تأملوا البيوت فوجدوا لها كسوراً وأركاناً وأقطاراً وأعمدة وأسباباً وأوتاداً، فجعلوا الأجزاء التي تقوم منها أبنية البيوت مقام الكسور لبيوت الشعر، وجعلوا اطّراد الحركات فيها، الذي يوجد الكلام به استواء واعتدال بمنزلة أقطار البيوت التي تمتد في استواء .. وجعلوا الوضع الذي يبني عليه منتهى شطر البيت وينقسم البيت عنده بنصفين بمنزلة عمود البيت الموضوع وسطه، وجعلوا القافية بمنزلة تحصين منتهى الخباء والبيت من آخرهما وتحسينه من ظاهر وباطن'' (2).
وهكذا يغدو الشكل الأيقوني للقصيدة، متشاكلاً مع ما يمثله بيت الشعر - في الصحراء - أما الموضوع فهو حياة الناس وطرق عيشهم في ذلك الوسط الجغرافي.
ويؤكد النهشلي هذا الأمر عندما قال: ''إن العرب لم يكن لديهم، في البدء، سوى النثر، ولكن لما رأت العرب المنثور يندّ عليهم وينفلت من أيديهم، ولم يكن لهم كتاب يتضمن أفعالهم، تدبروا الأوزان والأعاريض، فأخرجوا الكلام أحسن مخرج بأساليب الغناء فجاءهم مستوياً، ورأوه باقياً على ممر الأيام، فألفوا ذلك وسموه شعراً'' (3).
وما يؤكد هذا أيضاً، أن الشعر في معظم الحضارات القديمة لم يكن يعرف نظام الوزن والتقفية الذي عرف فيما بعد في القصيدة العربية الجاهلية وما بعدها، وعلى سبيل المثال:.
أولاً: إن الشعر العربي قبل أن يستوي في الأنموذج المعروف، كان من قبيل الكلام المخيَّل المشجَّع - المجرد من الوزن، يعتمد المجاز والصورة والإيقاع النثري - الممثل للشعر والنثر معاً - حسب بلاشير (4).
ثانياً: وهكذا يمكن القول إن أقدم ما وصلنا من الصور الأدبية الشعرية عن الحضارات القديمة، لا يخضع لمفهوم محدد للشكل ولا الوزن، والغالب أن لكل شعر إيقاعه ونظامه التأليفي الخاص: فالشعر السومري - البابلي يعتمد النبر والبناء المقطعي، والشعر العبري يعتمد نظام التقابل والتوازي والتكرار، والشعر السرياني كان عروضه نبرياً، وهكذا الشعر المصري والصيني القديم في معظمه قصائد نثرية - ولا سيما تلك التي جمعها كونفوشيوس في كتاب ''الأغاني''.
وباختصار، إن هذا الشعر القديم (البدائي - حسب تعبير بعضهم) تتوفر فيه جميع الصيغ التعبيرية والجمالية المميزة للشعرية: المجاز، الجناس، الاستعارة، التكرار، الصور، الإيقاع.. إلخ.
ثالثاً: والحق أن القصيدة العربية - عبر تاريخ تطورها - لم تقف عند شكل وحيد، ففي تاريخ الشعر العربي ثمة ضروب من الأشكال عرفتها القصيدة، ومنها - مثلاً - ما تُعرف بـ: القواديسي، المسمط، المخلَّع، ذات القوافي، الموشح، المشجرات، الشكل: الدائري او الدولاب، المربع، والخاتم.. إلخ.
رابعاً: هذا، ناهيك عن الأشكال الحديثة المختلفة للقصيدة سواء كانت قصيدة تفعيلة أم قصيدة نثر أم شعراً منثوراً - كما جاء لدى شعراء المهجر، ثم شعراء المدارس الحديثة عرباً وأجانب من القصيدة البصرية إلى ذاك الشكل: الشكل الجديد الذي لا يظهر لكي يعبر عن مضمون جديد، ولكن ليحل محل الشكل القديم، حسب المفهوم الجديد للشكل (5)، ذاك ''أن أشكال الجنس الأدبي تعد من أهم الأنظمة الإشارية التي تقوم بتوصيل العمل الأدبي، أي: الشكل بوصفه علامة (أيقونة)'' (6).
خامساً: وهكذا القول: ''إن الشعر يبدأ دوماً منذ اللحظة التي يقف فيها التفكير، ويحل محله حلم اليقظة''. والحلم لا يعرف شكلاً محدداً يتجلى فيه، إنه يتجلى بأكثر من شكل، وحسبما يتطلبه مبدأ التوصيل من علامة إشارية - رمزية.. إلخ.
سادساً: وعن الجرجاني أنه قال: ''إن مدار القول الشعري، راجع إلى التشبيه والتمثيل والاستعارة، فإن هذه أصول كثيرة كأن جُلّ محاسن الكلام - إن لم نقل كلها - متفرعة عنها وراجعة إليها..''.
سابعاً: أما في القصيدة البصرية - باعتبار الشعر - حسب الجاحظ: ''ضرب من النسج وجنس من التصوير''، فإن القصد هو أن تستعيض القصيدة بالصورة البصرية عن مبدأ التعبير بالصورة اللفظية، وهو ما سعى إليه الدادائيون في وقت مبكر من القرن الماضي، ثم عمت التجربة فصارت القصيدة تنضد على هيئة خيوط المطر: إذا كان عنوانها ''تمطر''، أو على هيئة تابوت أو سرير، أو قلب أو مرآة أو شراع.. إلخ (7).
والتمييز بين الإشارات السمعية والإشارات البصرية - كما يذهب ترنس هوكز - هو أن السمعية تختلف في شكلها عن البصرية: فالسمعية تستخدم الزمان وليس الفضاء الذي تستخدمه البصرية بوصفه عاملاً بنيوياً رئيساً، كما إن السمعية تمثل لأن تكون رمزية بينما تميل البصرية لأن تكون أيقونية أو تمثالية.. (8).
ثامناً: وختاماً: الشعر رؤية تخييلية للعالم، رؤية ذاتية مبنية في شكل.
والنص الذي يتكون من مركبين: ''الشكل'' و''المحتوى'' - في المصطلح السائد - لا يفترض شكلاً محدداً مسبقاً، إنه: شكل - لغة، وحسب، ومن هنا قيل: الشعر في الكلمات لا في الأفكار، والشاعر هو من يركب هذه الكلمات بالشكل الذي يراه أنسب أو أكثر قدرة على حمل الشعر وأدائه للآخر: القارىء أو السامع، أو الناظر - بالنسبة للقصيدة البصرية خاصة.
الرأي- 7-9-2007