الشاعر الذي سافر داخل ذاته ولم يعد..
يحضر اليوم عبر موقع على الانترنت
ليس للشاعر المغربي كريم حوماري أي عنوان إلكتروني، ولا حتى هاتف محمول يمكنك الاتصال به عبره. ليس لأن شاعر أصيلة المتمرد زاهد في التكنولوجيا الحديثة، ولكن ببساطة لأن روحه غادرت من إحدى شرفات أصيلة المشرعة على المحيط قبل أن تنفتح أبواب عدد من محلات مدينته الزرقاء الجميلة عن مقاهي إنترنت. لقد غادرنا كريم قبل الإيميل والموبايل، لكن وفاء بعض أصدقائه عاد به اليوم إلى الواجهة من خلال موقع شخصي له على الشبكة. فما أجمل الوفاء حينما يفاجئك في زمن عزَّ فيه الوفاء؟
حدث ذلك كما لو كان البارحة. كان طائر أصيلة الطليق يتحرك بحيوية في الجانب الآخر من المدينة. بعيداً عن موسم أصيلة الذائع الصيت، بعيداً عن جمعية المحيط وقلاع المدينة الثقافية. لقد اختار الهامش وآمن به، وهناك في مقاهي الهامش دخن سجائر عطالته وكتب قصائده الأولى التي غرسها كشتلات برية في غفلة من النقاد بحديقة الشعر المغربي. لكن كريم، هذا الشاعر الذي تسلل إلى داخل أعماقه فوجد الهاوية، سيقرر في لحظة من اللحظات أن يصفق باب العمر وراءه ويغادر، باتجاه المجهول.. باتجاه القصيدة التي لم يكتبها أحد.. ولن يكتبها أحد. وكان طرياً ما يزال. طرياً كغصن، سامقاً كشجرة، ومصطخباً كموج المحيط.
وكان في الخامسة والعشرين.
كان كريم قد أعدَّ لموته جيداً. فعل كل شيء بتكتم وهدوء، لكن بإصرار.اشترى ثياباً جديدة. ذهب إلى طنجة. أكل جيداً وشرب باستمتاع. ثم عاد هادئا إلى مدينته... وشنق نفسه. قبل موته التراجيدي ببضعة أيام كتب لصديقه القاص مصطفى حيران: "عين الأشباح تطاردني صباح مساء داخل عروق أصيلة المتشابكة في جسدٍ إيقاعُ دمعِه بطيء وقلبُه له دقاتُ طبل، لكن لا أحد يسمع..". كان بعض المخبرين قد داهموا بيت كريم حوماري قبيل انتحاره بأيام. فتّشوا البيت ركنا ركناً ثم اقتادوا الشاعر إلى قسم الشرطة للتحقيق معه قبل أن يطلقوا سراحه. لكن يبدو أنهم أطلقوا جسده فقط فيما ظلت روحه معتقلة لديهم. الروح ذاتها التي ستصير لها أجنحة حلقَّت باتجاه الأعالي يوم الثلاثاء 4 مارس 1997.
حدث ذلك منذ عشر سنوات. والقصائد الواعدة التي خلفها كريم حوماري طبعها الأصدقاء بعد رحيله وأصدروها تحت عنوان (تقاسيم على آلة الجنون). الديوان نفذ سريعاً ولم يعد هناك من حضور لصوت كريم حوماري. الشعراء انشغلوا عنه بحروبهم الصغيرة، النقاد انشغلوا عن تجربته الطرية بشعراء الجامعات. ولم يبق هناك غير كرم الصداقة الذي يحوّل غياب الصديق إلى حضور حيّ وقوي، إلى حضور أليم وكليم في ذات الآن. لذا بادر الشاعر إدريس علوش، ابن أصيلة وصديق الشاعر الراحل، إلى إنشاء موقع إلكتروني لكريم حوماري بمساعدة شاعر آخر هو محسن العتيقي. لقد غادرنا كريم حوماري قبل عشر سنوات، هكذا مع سبق الإصرار والترصد وبقسوة مع الذات لم يعهدها فيه أصدقاؤه. غادرنا قبل الإيميل والانترنت. لكنه اليوم عاد ليتخذ له موقعاً - إلكترونياً- بيننا.
هذا الصباح، قرأت مرة أخرى بعض قصائد ديوانه الجميل (تقاسيم على آلة الجنون). وغداً سأقرأ قصائد أخرى، وسأترك لك عزيزي كريم رسالة في دفتر الزوار.
شكراً إدريس علوش..
www.karimhoumari.jeeran.com
****
من ديوان (تقاسيم على آلة الجنون)
أمشي ليس في طريقي غير نوافذ مشرعة على ضياء من خرير دمي. قلبي مكفن في هواه، أقدامي بلا وقع. أمشي على رصيف الغواية و ليس في هذا الطريق غير الضياع الرابض في أنفاسي، غير أني أحلم بجسور
الصباح، أتعب، أرتاح، أسند قامتي على هواء لذة هاوية تؤنس اللظى ثم أمشي. حتماً سأصل مجنونا أو محمولا
في نعش كلمات تنور صرخاتي. حتما سأصل لأجد امرأة بلا وجه تزين خصرها بمشنقة:
لنجوم الغد
سأصلي حتى التعب،
سأقرأ ما تجهله الأيام
لن أنتهي أبداً
لن أنتهي.
الوقت جرح في صدر أيامي، و أحلامي على حبل غسيل
مهلة و أنا جالس في زاوية بعيدة من نفسي أتفحص أعماقي، ثمة شجن متوهج بشهوة و يأس قابع بين ظلاله يصغي لقلقي مرتبكا. ثمة وجه طافح بالمراثي و حزن يضحك حتى الجنون. ثمة نجمة فرحة ترقب سقوطي كريشة طائر رحل أو كحجرة تنضح بالدم الفاسد. غير أنني في نفس المكان المشتعل من نفسي أجلس على أريكة من هواء مسامي. في جيوبي ورق ذابل و في يدي فنجان تشربه الريح:
سراب كل الظنون،
الطريق المذهولة
تفر من خطوي،
ليس في حلمي غير الفرح
فرسي الشهوة
لا أنهار أبداً
لا أنهار.
نفس الطيف يمر في صباح ثلجي يوزع جرائد بالية على الموتى ويكتب على شواهد القبور اسم الذي سافر داخل ذاته و لم يعد، نفس الطيف يعبر شارعاً في منفى أوهامي في يده مزق جريدة تحكي عن حمامة نزعت ريشها كي لا ترحل و عن كلب يفتش في قمامة العصر عن الخاتم السحري :
أصدقائي، أنا
مرة و أنا أتسلل إلى مكاني المعهود داخل أعماقي
وجدت الهاوية، وجدت قناعا يضحك
فمشيت كفارس مهزوم:
مبتهجا بالحماقة
أشرب من نبع الدهشة
لا أرتوي أبدا
لا أرتوي.