الأسواق العتيقة تفتنني، وهي علي عتقها الجامع في هذه المدينة وتلك، ذات مذاقات مختلفة. كل البلدان التي زرتها وشت أسواقها، السلع والروائح، بمزاج أهليها ونكهتهم الخاصين. في أمريكا، نيويورك وشيكاغو ولوس انجليس كانت السلع العتيقة أكثر عتقا مما تحتمله العين. في كندا المشهد أكثر طراوة. في فرنسا اصطبغت السلع العتيقة بنبرة مخادعة، أنيقة الى حد. في روسيا أكلني العتق لمّ يغمر كل شيء ولا يتوقف بؤسه علي الأسواق القديمة. رنة فازات الكريستال وكأنما تأتي تلهث من عالم آخر. اليونان، ايطاليا، اسبانيا، حيث الروائح متصلبة، وتشكل عصيدة خفية تملأ شعاب الأزقة. السويد أيضا، في سلعها روح تلك البلاد، مغناج هنا ومتهكمة هناك ومتجهمة في بلاد الثلوج، وباختصار موسومة بأحوالهم الاجتماعية والمناخية.
في البلاد العربية، سحر مثل هذه الأسواق أكثر فداحة في قلبي. استثني الهند لأنني لم اعرفها واخبروني بأن أسواقها قصة كبيرة . أغيب عن الوعي في خان الخليلي في القاهرة، وخبرت هذا الدوار وان بشكل اقل في المغرب وتونس ومسقط وسورية والكويت والأردن.
مقدمة طويلة لأقول بأن أحوال بيروت الأمنية اليوم، لا تهمني، وبأنني أتساءل حتى ـ رغم التفجيرات ـ لماذا لا اذهب الى مكاني المفضل هنا. مكاني المفضل والفاتن وتمنعني عنه منغصات لا يبدو أنها تنتهي. اليوم مخصص للسوق الطويلة المستقيمة القائمة علي طرف بيروت الجنوبي، بعرباتها الصغيرة المصطفّة في الشارع وبضاعتها المتقشفة: قطنيات ثلجية البياض، جوارب حسيّة أكثر من اللازم ، فوح صابون طرابلسي وشامي ، أحذية عسكرية، اسطوانات قديمة، فونوغرافات مكسرة، أقمشة حريرية مهترئة، أوان خزفية متشققة، ملابس فولكلورية مزركشة وبسط قديمة، القدم المؤثر الذي يُحاكي القلب.
كل هذه الأغراض الهرمة عاشت قصصا ومغامرات غريبة. أساور من كانت؟ فيروزية وعقيقية، وأية أعناق لامست عقود اللؤلؤ هذه، بيضاء مبرقشة بالزهري.
داعبت كرة بلورية يعوم فيها نثار ذهبي. قلبتها وراحت عيناي تتلقفان بانتباه مفتون كل الفوضى المشعة التي اشتعلت فيها. كتب عتيقة كان لها أبطالها وقصصها غافية الآن بأوراقها المهلهلة وترتعد من شدة الهوان. خردة صدئة وسترات يومض فروها الوميض الرهيف الذي يستدر الدمع.
تعالي وانظري، قال لي الشاب وسط مجموعة متحلقة حوله، يبسط ورق لعب علي قماشة سوداء. تابعت بفضول، لاعب الورق الماهر اليدين وهو يخلط بسرعة ثلاث ورقات قذرة علي قماشته. عشرة آلاف علي هذه الورقة قلت للشاب وقد وضعت ورقتي المالية فوق احدي ورقات اللعب. غمز لي بدهاء: ربحت، قال لي وهو يقلب أوراقه، لتنساب هذه من جديد مسرعة بين أصابعه. تعمد بالطبع ان يدعني اربح حتى يشجع الجمهور المتفرج. الوقت الآن مناسب تماما للعب. العالم كله يلعب فلم لا ألعب بدوري. لم يكن الأمر صعبا، احتجت فقط ان اندس وسط الجمع وأبدأ لعبتي شوبدك بها الشغلة قال لي احدهم وكان قد خسر للتو: هيا، ـ أضاف ـ لا يمكن لك الربح دائما. لا يعرف الرجل أنني مغرمة بالخسارات. لم أرد، فلقد كان وعيي منصرفا الى تحصيل متعة اللعب في الأزقة، مع ناس الأزقة، المدخنين الشرهين، السمر الشاحبين، ضئيلي الحجم ومصدري الى النسيان. نسيان كل شيء. لم أماطل حيال رغبتي الى معاودة اللعب. وضعت عشرة آلاف أخرى متخففة من قدر كبير من العبث. سئمت فجأة وأصابني غثيان حين ربحت لمرة ثانية.
تابعت تجوالي مستغرقة بتأمل المناديل الزاهية، ومعلقة هذه علي قصبات خفيفة. وصلت الى زاويتي الأثيرة ، فتحضنني روائحها النفاذة، عطرية وحامزة تطبق علي روحي وقد أتت من ماض بعيد. بدأت حياة الرائحة رحلتها في مسامي كافة. بهارات دافئة مشوبة بالإحساس، تستقر فيّ عميقا، تدّور لحظتي وتمنحها معني. مع هذه الرائحة من المؤلم ان تكون وحيدا، الوحدة الثقيلة وتعريها نداءات غامضة. الوحدة الندية تماما، فاحشة من دون صوت. بهارات هندية، سوداء وصفراء شاحبة، حمراء نارية، داكنة أحيانا، مطحونة أو ذات أشكال مستديرة أو مستدقة، كبوش قرنفل جافة، رائحة عنبر عفنة، زنجبيل وكركديه وقرفة وورود يابسة وأعشاب مشكوكة بخيطان بالية.
رائحة مظلمة ذات نحيب، تستحضر في بالي كهوفا، ومغاور، وبيوت متعة، وغابات مطرية، وأكفان موتي حديثي الموت. روائح كصيحات روح بسيطة تجهل الكلام، الامتلاء الصامت والأنين.
اجتزت الشارع، السوق كله. كان الوحل وتلاطم الأكتاف قد أرهقاني. أحب مثل هذه الغيبوبة في لطفها البدائي وحرارتها المثيرة وابتذالها المتوتر مثل قوس. تندهني مثل هذه الأمكنة فأرتمي وسط الأذرع المكسوة بزغب مذهب، تكنسني أمواج البسطاء، في رغبة قنصي لحظة حقيقية قوية، تخلّف فيّ ارتعاشها الغامض، ونوبات حنان محمومة. رواحي ومجيئي بكل الهواء المشبع بالعتق، اخزنه في مسامي، استشعره جوهرا، روح أشياء حقيقية لم تشوّش عليها الخيبة الواقفة كظفر في العين، للأيام الراهنة.
القدس العربي
21/06/2007