"نهرٌ تعبره صبحا ومساء
تبدأ في المنبع لكنك تنسى
أين تصبّ حياتُك أحيانا"
(شتاء في أثينا)
سيشرع الجميعُ بتأبينك، عدا الكلمات التي أحطتَ بها، لملمتها فنثرتها في عمق الحياة. كلماتك ليست كأدغال الآخرين، وموتك لم يتمّ قبل إشراقة الشعر. لقد عبرتَ نهرَ الحياة يا هذا الصامت الأبدي الآن في تابوت الصقيع. هل اخترت برلين ميناءَ موتك، بعد أن عذبتك الوحشةُ المعززة بمغامرات آلهةِ الحروبِ، والعزلة والغربة المستشريتين؟ افترضتَ ترحالك بين المدن ولم تستمعْ لخطاب طبيبك، ولا لنداءات صديقك البرليني الذي احتضنك ودافع عنك برقة حتى رمقك الأخير. ألم تكنْ بانتظار سفرتك الشعرية الليتوانية؟ ألم تتراجع مرارا في قرار عودتك من برلين إلى كاليفورنيا، رغم المواعيد التي قطعتها على نفسك وصديقك البرليني العتيد؟ سوّفتَ واحتلت على الجسد الهزيل الذي لم تردْ بسببه أن يراك أحد، حتى تلك الفتاة المتبرعة بفك طوق وحشتك. كنتَ تدرك احتضارك واختيارك وتداعي جسدك، لكنك راهنتَ على روحك وذلك الكلام- الأفق الذي رهنتَ نفسك من أجله؛ أعني حصان الشعر.
ألم تقلْ في 1964 وأنت داخل بلادك: "أصَدّقُ دائما بأن شعرا أكتبه هو وجود أعيشه...أشمّهُ، أتذوقه، أقتله ويقتلني والوجودُ هذا ذو صعوبة بالغة، وله ألفُ صوت يخترقني... وألفُ رأسٍ يرتفع في أفقي، يخنقني، يوقفني، يربط قدمي وأحيانا يريحني بأشياء ميؤوس منها. كل هذا هو شعري، وحين أنظر إليه، وجودا كثيفا لعينا، مباركا، أكتب شعرا كثيفا، لعينا، مباركا، أكتب تناقضات وجودي". لم تراجعْ ما قلته بعد ذلك مطلقا، لأنك قد وعيتَ مبكرا، منذ ذلك الحين، أن الإبحار وراء الشعر لا نهاية له، وأن من أبحرَ مثلك في الشعر لن يعود. لقد كتبتُ عنك (أنا الذي أبحث عن قارب النجاة)، قبل سنتين ونصف دراسة بعنوان" الانسلاخ والبحث عن الذات في شعر سركون بولص" وقدمتها في مؤتمر عُقد بجامعة آدم ميتسكيفيتش في مدينة بوزنان– غرب بولندا. وذكرتُ فيها أنك اللاسياسي، اللامنتمي، البعيد عن إفك السياسة، أخذتَ في العقدين الأخيرين بالذات، تبحث عن ذاتك حائرا مسافرا ببطاقة شعرية مفتوحة إلى الأبد. وقلتُ إنك أخذتَ تعود أكثر من ذي قبل لأكد وآشور ونبوخذ نصر وجلجامش وسومر، وكأنك تستنطق رموزَ وحجارة وأهل أرض الرافدين التي عصفت بها السنون ودكّتها سنابكُ الغزاة. لقد بدأتَ من أرض آشور ومنها انطلقتَ وإليها اشتريتَ بطاقتك المفتوحة، لكنكَ لم تصلها أبدا، لقد وصلت إلى عمق شعر العرب، واخترقتَ روح بلاد الرافدين روحا ولم تصلْ جسدا. ألم تفتتح ديوانك "الأول والتالي" بالعبارة التالية "أهلي في أرض الرافدين.. إلى أحيائي وأمواتي"؟ ثم ألمْ تستلفْ من جلجامش عبارته الموحية"إلى أرض الأحياء، تاقَ السيّدُ للسفر"؟ ثم ألمْ تبّوبْ ديوانك بمسامير(أرقام) أرض الرافدين؟ وقلتُ فيك أيضا: إنك برحيلك في العام 1967 صوبَ بيروت ومن ثم كاليفورنيا، كنتَ تبحث عن ذاتك عبرَ الشعر والتجربة، عبر الحياة والفكر. لكنك بخداعك نفسَك قد صنعتَ الشعرَ.
لقد كتبتَ، بعد أن قرفتَ من الحياد وأنت البعيد عن السياسة:
"أيها الجلاد
عُدْ إلى قريتك الصغيرة
لقد طردناكَ اليومَ، وألغينا هذه الوظيفة"(1984).
أنت اخترتَ الشعرَ الحرَّ وقصيدة النثر شكلين – شراعين لسفينتك الشعرية، في وقت كان فيه ممثلو قصيدة"التفعيلة" في مواقع الدفاع لا الهجوم. مضيتَ في مجاهيل الشعر مريدا مخلصا يقظا ورائيا.
كنتُ متأكدا من أن رحيلك كان في الغرب شرقا وعراقا على وجه التحديد.
نعم هناك سفر وسفر، عودات وعودات، رحلات كثيرة وثمت رحلة واحدة باتجاه وحيد وهي الأكثر تعبيرا وصمتا.
قرأت لك أيضا:
" أصلُ إلى وطني بعد أن عبرتُ
نهرا يهبط فيه المنجمونَ بألات فلكية صدئة
مفتشين عن النجوم
أو لا أصل إلى وطني
بعد أن عبرتُ نهرا لا يهبط فيه أحد"
(من قصيدة: هناك رحلات).
وداعا أيها الشاعر المبحرُ صوب العدم..