بدأ سركون في مجلة شعر، قصائده فيها باتت بعيدة ولن يغامر أحد بضمها الى مؤلفه. لكن الأمر يستحق عودة ما الى سركون العراقي، على الأقل، لاقامة نصاب تاريخي. لا بد ان شيئا كهذا سيردنا الى مراهقة خصبة. يمكن القول انه بدأ مبكرا جدا، لكن انظر ماذا بين يدينا، الآن، ست مجموعات شعرية لا غير. لقد عاش للشعر تقريبا فهل كان مقلا الى هذا الحد. بعض عشرائه يجزمون بالنفي. يقولون انه كان يكتب بوفره لكنه لا يأبه بالنشر. جاد الحاج نجح في ان ينتزع منه مجموعته الأولى... «الوصول الى مدينة أين»، لولا ذلك لما كان ليبادر. في كل مرة نشر تحت الحاح آخرين. ثم ان النشر ما كان في الغالب ضمن أي تسلسل زمني، آخر مجموعاته او ما قبل الآخر «كنت نائما في مركب نوح» يضم قصائد شبابه الاول (الأميركي) المدهشة. والأرجح ان «الوصول الى مدينة أين» اختير بدون أي حساب زمني. لا نعرف ماذا آخر سركون عن قصائد شبابه ولماذا تآمر عليها حتى ذلك الحين، لم أسأل سركون عن ذلك حينما التقيته مؤخرا في لوديف. كان منهكا للغاية وكنت أشفق عليه من كل شيء، بل اشفق على نفسي من ان أراه على هذه الحال. لا أذكر اني تبادلت معه حديثا طويلا (سوى مرة واحدة)، كان شاحبا ونحيلا للغاية كأنه رجع بهذه الهيئة من الأهوال. لم نعرف انه يحتضر تقريبا، لكننا شعرنا انه برئتيه الخربتين اللتين يمكن، لدى أي هفوة، ان تمتلآ ماء، ليس سوى سركون مختصر للغاية، سركون بحجم رئتيه. سركون في خط الدفاع الأخير. بعيد قريب حاضر غائب. وليس علينا ان نخوض معه في أي كلام يلهيه عن المعركة الصغيرة التي تدور في جسده. كنا نراه يطيل السهر ولا يطيل الكلام، يصغي غالبا لجار يصب كلامه في أذنه ولا يكاد يصغي الى الحديث الدائر حوله. لم نطلب منه حضورا اكبر، لم نستغرب سهره كأنما هذا الجسد الذي يرق اشبه بالسهر منه بالنوم. لم نحتج على شربه، لم نر في ذلك جناية على نفسه، كان رغم كل شيء يبدو محتاطا، لربما شعرنا انه بهذا الاحتياط والبعد يحمي نفسه، أم انه الشعور بأننا لا نستطيع شيئا بعد. قال سركون للبعض إنه مولّ، لكن الأمر لم يكن دراماتيكياً. لقد كان على الباب بدون ان ننتبه، تمهل كثيرا على المدخل. لم نكن، رغم كل شيء، نعرف ان الأمر هكذا، انه اطال الوقوف على المدخل لكي لا يقول وداعاً.
لم نسأل سركون بولص عن مؤلفه، والأرجح انه ما كان يعترف باهماله. كان يريد ان يبدو دقيقا في حياته دقته في كلماته، مع كل ما يقتضيه ذلك من تمويه. لكن سركون مثله مثل السياب كتب لما بعد رحيله. لم يخف مؤلفه فحسب ولكن أخفى بالتأكيد حياة كاملة وعلى الذين يهتمون حقا ان ينبشوا عنه. لقد ترك وراءه في كل مكان شيئا ما وعلى من يهتم ان يسير على آثاره. ذلك ان سركون الذي كان ابن وقته اكثر من أي شخص لم يكن في وقته. كما لم يكن في أي وقت ولا في أي مكان، كان عابرا متخفيا لهما، كانت قراءته شبه مستحيلة على ضوء ظرف ما. يستحيل تقريباً ان نوازن بين شعره وبين تطلب ظرفي قد لا يكون اقل ترديا من الظرف نفسه. كثيرون من الشعراء، بل الكتاب، تكونوا في هذه الموازنة بل في ذلك التبادل. لقد اشبعوا في الغالب ظرفا بائسا وبدوا ناجحين بهذا المقياس. تفاعلهم مع زمنهم، وان بدا فعالا في لحظة، الا انه سرعان ما بدا تجارة اوهام، لقد أشبعوا أكاذيب ظرف وما كانوا لينجوا هم، بسبب ذلك، من الكذب. سركون الذي عاش في الأطراف ما كان حاضرا في هذه السوق، كان في الأغلب عند تقاطعات كبرى ووسط انجدال ظروف كثيرة ومتباينة فأجاب تقريبا، ان يكن أجاب، على هذه الكبكبة الزمنية المكانية، على هذه التقاطعات والتجاذبات المتفاوتة ولم يكن جوابه لذلك واحديا ولا مستقيما ولا ظرفيا، لقد احتاج الى كل هذه المسافة ليخلق ظرفه الخاص، احتاج اليها لكي لا يكون مطابقا ولكي لا يكون صنيعة وضع. شعره لذلك بدا وكأنه يكوّن دوامته الخاصة في كل الاتجاهات، بل بدا وكأنه يتخذ كثافته بل ومساحته من هذا التقاطع. انه شعر متقزح يمور من الداخل ويسطع كمنشور ضوئي من كل تكسراته. انه ايضا شعر مركب من عناصر شخصية وسردية وفكرية لكنه دائما، ومن الجملة الأولى، ينشئ مكانا، ومكانا حاضرا لدرجة اننا ننتقل فورا اليه. فالقصيدة عند سركون هي مساحة وطقس ومعالم، انها جغرافيا كلامية اذا جاز التعبير. قراءتها اشبه بتأمل مشهد، بل أشبه بالدخول الى مدينة جديدة، وحالما ندخل نترك ما وراءنا، نترك انفسنا لهذه الفرجة اذا جاز القول. يمكننا ان نتذكر هنا ما تفعله السينما فينا، اننا نجتاز الظلمة لنسلّم انفسنا لهذا العالم الذي يصلنا متشظيا لكن يجتمع بسهولة نسبية في مخيلتنا. شعر سركون بولص يتطلب فورا منا ذلك القطع، ذلك الانتقال، ثم انه ايضا يملك ذات السحر، ذات الحضور البصري والضوئي، ذات المدى والحيز والحجم والوضعة والترتيب والفضاء. بوسعنا ان نتخيل احجاما ونحن نقرأ سركون، هناك احجام عملاقة، ذلك يعني اننا هنا في عالم جيلفري، ثمة عين هائلة عندئذ تتجول في عالم من مردة وناطحات سحاب. لكن هنا ايضا عالم المصغرات. عالم منمنم او مخرم بالتفاصيل والايقاعات الثانوية. يملك شعر سركون بولص مقابلا فوريا مجسما الى حد ما. ان قراءته لا تعني تلك الصلة الصماء بكلمات وايقاعات مجردة، قراءته تبدأ فورا بهذا التحول الى ضوء ومدى وخليقة. ثمة هذا المعادل الذي ليس دائما واقعيا لكن ثمة أبنية ووجود وحركة حتى للمجرد. اذ تقال الأشياء بهذا النفس المحيي، تقال بهذا الصراع والعنف والمزاج والمفاجأة فلا تكون البتة مجردات. انها في أصعب القصائد وأكثرها غموضا تتلبس تلك الدراما وتدخل في شقاق عارم وتصرخ وتلهث وترن بالدهشة وتسطع بالمفاجأة فكأن في خلفية الكلام تلك الحكاية الغامضة التي تلتقط فقط تردداتها واصواتها وفواصلها العاطفية.
كانت العالمية هي حلم الحداثة الشعرية العربية ولنقل ان كل الشعر يومذاك كان، في جانب منه، تخييلا لتلك المواكبة التي يلتحق فيها بالمسيرة العالمية المتخيلة. لنقل ان هذه العالمية كانت موضوع الشعر الخفي ومعناه الضمني، لكننا كنا نجازف هنا بنوع من النمذجة المتعسفة، بنوع من الكليشيه، بنوع من المحاكاة الفجة، بنوع من «البيان» العالمي. لقد حشي الشعر «الحديث» بمديح الحداثة وحشي بالتظاهر العالمي، مثل هذا النزوع كان غالبا ما يرينا الفرق واسعا وشاسعا بين ما نعرفه من شعر غربي وبين ما يجاريه في شعرنا. كان في الغالب اكثر من فرق تقني او شكلي رغم ان الهوة كانت واسعة في هذا المستوى، فالفرق كان في النهاية بين روح وروح وبين رؤيا ورؤيا. اذ تحويل العالمية الى هدف كان يجعل منها ضربا من البناء الفوقي للشعر، ضربا من الايديولوجيا الشعرية. هكذا تغدو الحداثة والتجديد شعارا يقال احيانا بحرفية، او يغدو ان موضع اعلاء وحض ومبايعة، بين اليوت والاليوتيين، وبين بيرس والبيرسيين، وبين نيرودا والنيروديين وبين بريفير والبريغيريين وبين... وبين... هذا الفرق الواسع او المزري احيانا. سركون بولص لا يخفي مثالا عالميا، لا يباري او يوازن شاعرا معروفا في الغرب، ولسنا بحاجة على كل حال الى نبحث له عن مرجع أو إلى ان نقارنه بأحد. شعر سركون لا يحتاج الى جواز عالمي، انه في الأساس داخل هذه العالمية. نقرأه فلا يدلنا الى شاعر بعينه لكنه يدلنا الى فكرتنا عن الشعر التي تكونت من تفاعلنا مع الشعر العالمي. لسنا نجد شاعرا معينا وراء سركون لكننا نجد تجربة اخرى تناظر وتقف في مصاف هؤلاء الشعراء، نجد هذا التركيب الخاص الذي يحمل لا بصمة شاعر فحسب ولكن تجربته بل وعالمه. انه سحر آخر ومغناطيس آخر وخيال آخر وقدرة أخرى على التحويل والدخلنة. انها سردية خاصة ومغامرة قائمة بذاتها. لسنا أمام مباراة ولا مواكبة ولا مديح للحداثة ولا تقربا منها، اننا أمام مد جارف آت من كل مكان لكنه يستقر احيانا في نقش سومري وفي لحن عراقي.
السفير
26 اكتوبر 2007