لم ألتقِ شاعرة قرارة الموجة، وعاشقة الليل، إلاّ مرة واحدة، وحيدة، في مهرجان شعري، في بغداد، بعد منتصف الثمانينات..
لم تحضر لكي تلقي، مكتفية بصمتها الجليل. ذلك الصمت الطويل الذي سيمتد طيلة سنوات عزلتها في منزلها البغدادي ثم رقودها على أسرة المستشفيات الغريبة، ثم داخل منزلها القاهري المقفل على عزلتها السرمدية، حتى رحيلها في 2007/6/20 عن 85 سطراً في كتاب الوجود.
كأن هذا الصمت - الذي تلفعت به طيلة تلك السنوات - صرخة احتجاج على عهر السياسات والخطاب العربي الأجوف، أو ربما مرثية يائسة للزمن الأغبر الذي عاشته في نهايات حياتها، وما زلنا نعيشه: دكتاتوريات تجرُّ حروباً، وحروباً تتلاقح وتتناسل عن كوارث، وكوارث تتفتق عن ميليشيات ومفخخات واحتلال وارهاب وتكفير وتطبير وتدمير.. وإلى آخر الدورة وما سيأتي..
كيف لشاعر ثمانيني شاب مثلي، وقتذاك، فتح عينيه على مشهد الكوارث وعاش الحروب الطويلة، أن يجد نفسه فجأة أمام شاعرة رائدة عاشت مع زميلها السياب مخاضات ولادة القصيدة الحرة عام 1947.. وكانت قصيدتاهما الشهيرتان: "الكوليرا" و"هل كان حباً؟" فاتحة وانعطافة جديدة في تاريخ القصيدة العربية، وما زالتا ساحة مفتوحة للمنافسات والمناقشات وللدراسات.
كنتُ طيلة الأمسية، وبعيداً عن خبيصة الشعراء المنشدين، وعن أسبقية الريادة، أختلس النظر لعينيها الحزينتين كأني أستنطقهما علَّ أجابة تفك لي شفرة القصيدة التي تلبستني، أو كنه هذا الوجود والألم المتلازمين في حياتنا.
"الليلُ يسألُ مَن أنا
أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ
أنا صمتُهُ المتمرِّدُ
قنّعتُ كنهي بالسكونْ
ولففتُ قلبي بالظنونْ
وبقيتُ ساهمةً هنا
أرنو وتسألني القرونْ
أنا من أكون؟
الريحُ تسألُ مَنْ أنا
أنا روحُهَا الحيرانُ أنكرني الزمانْ
أنا مثلها في لا مكان
نبقى نسيرُ ولا انتهاءْ
نبقى نمرُّ ولا بقاءْ
فإذا بلغنا المُنْحَنَى
خلناهُ خاتمةَ الشقاءْ
فإذا فضاءْ !
والذاتُ تسألُ مَنْ أنا
أنا مثلها حيرَى أحدّقُ في الظلام
لا شيءَ يمنحُني السلامْ
أبقى أسائلُ والجوابْ
سيظَلّ يحجُبُه سرابْ
وأظلّ أحسبُهُ دَنَا
فإذا وصلتُ إليه ذابْ
وخبا وغابْ"
فمنذ ديوانها الأول "عاشقة الليل" الذي أصدرته عام 1947، ظلت وفية لحزنها عبر دواوينها اللاحقة: "شظايا ورماد" - 1949 ، "قرارة الموجة" - 1957 ، "شجرة القمر" - 1968 ، "يغير ألوانه البحر" – 1970 ، "مأساة الحياة وأغنية للإنسان" – 1977، للصلاة والثورة" - 1978، ومجموعتها القصصية التي صدرت لها بالقاهرة عام 1997 تحت عنوان "الشمس التي وراء القمة"..
وقد أشار الناقد اللبناني مارون عبود إلى ذلك الديوان الأول منذ صدوره، قائلاً: "كانت تسود قصائده مسحة من الحزن العميق فكيفما اتجهنا في ديوان عاشقة الليل لا نقع إلا على مأتم، ولا نسمع إلا أنيناً وبكاءً، وأحياناً تفجعاً وعويلاً"
"ما الذي، شاعرةَ الحَيْرةِ، يُغْري بالسماءِ؟
أهي أحلامُ الصَبايا أم خيالُ الشعراء؟
أم هو الإغرامُ بالمجهولِ أم ليلُ الشقاءِ؟
أم ترى الآفاقُ تَستهويكِ أم سِحْرُ الضياءِ؟
عجباً شاعرةَ الصمْتِ وقيثارَ المساء"
بدايات التسعينات، ذات بغداد وعمان، وفي جلسة مصارحة وحوار طويل (صدر فيما بعد في كتاب)، قلتُ للشاعر عبد الوهاب البياتي: أعود بك لفتح ملف ريادة الشعر الحر من جديد، هذا الملف الشهير الذي كثرت الآراء والمناقشات حوله منذ فترة الخمسينات وحتى وقتنا الحاضر.. ترى من كان الرائد الأول برأيك: السياب، البياتي، نازك، بلند الحيدري، صلاح عبد الصبور.. الخ؟
ابتسم بطريقته المعروفة وأجابني:
- "بالرغم من عدم أهمية هذا الأمر لأن الشعر هو ميدان سباق المسافات البعيدة ولكنني أعتقد ان نازك الملائكة هي أول من بدأت، ولكن هذه البداية بالرغم من أهميتها وجلالها تبقى اشارة تاريخية فالعبرة في الخواتيم كما يقول المثل فلا نازك ولا السياب استطاعا في البدايات ان يوظفا الشكل الجديد في اقتناص النور القادم من بعيد..."
لكنه عقب فيما بعد – رغم حساسية الموضوع بالنسبة له - على أهميتها الثقافية وسعة اطلاعها..
غير أنها ومنذ أكثر من ربع قرن تقريباً، فضلت أن تغيب عن معترك الحياة وضجيج المتنازعين حول ريادة الشعر الحر، شائحة بوجهها عن المعارضين والمؤيدين لها معاً.. مفضلة ان تقبع في ليلها الطويل بعيداً عن الأضواء والأدباء وكاميرات الصحفيين.
غير أن تلك الغصة أو الجحود حملتهما معها إلى نهايات حياتها..
تكتب في رسالة لها إلى صديقها الأديب عيسى الناعوري مؤرخة في 1953/11/16 تقول فيها: "أنا أعلم أن بدر السياب بدأ يحاول في إلحاح منذ سنة 1950 أن يخبر كل انسان إنه هو الذي بدأ الحركة وأنني أنا لست سوى تابعة، ولكن الزميل، سامحه الله على كل حال، ينسى أن القصائد كثيرا ما تنشر في الصحف قبل جمعها في دواوين مطبوعة، وهو لا يعلم على الاطلاق أن قصيدتي الحرة الوزن "الكوليرا" المنشورة في "شظايا ورماد" قد نشرت في عدد كانون الاول (ديسمبر) 1947 في بيروت في مجلة العروبة التي كان يصدرها الاستاذ محمد علي الحوماني، وأنني كنت قبل ذلك بشهرين قد أرسلتها إلى أديب صديق من لبنان أستطلع رأيه في هذا الاسلوب الجديد الذي وفقت إليه وأنا أحاول في جهد نفسي منفعل التعبير عن أحساسي تجاه الآلاف من الموتى الذين قضى عليهم داء الكوليرا الذي تفشى في مصر آنذاك، وقد استلمت من الاديب المذكور رسالة ما زلت أحتفظ بها يخبرني فيها أنه عرض القصيدة على عمر أبو ريشة ونقولا فياض وعبدالله العلايلي وغيرهم فانقسموا حولها في الرأي"..
وكانت الملائكة قد دونت في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" - 1962، تفاصيل ذلك الحدث، كتابة القصيدة الأولى التي أرخت لولادة الشعر الحر، قائلة: "بداية حركة الشعر الحر كانت سنة 1947 في العراق. ومن العراق بل من بغداد نفسها زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله وكادت بسبب تطرف الذين استجابوا لها تجرف أساليب شعرنا العربي الأخرى جميعا".. "وكانت أول قصيدة حرة الوزن تنشر قصيدتي المعنونة "الكوليرا" وكنت قد نظمت تلك القصيدة 1947 أصور بها مشاعري نحو مصر الشقيقة خلال وباء الكوليرا الذي دهمها وقد حاولت فيها التعبير عن وقع أرجل الخيل التي تجر عربات الموتى من ضحايا الوباء في ريف مصر. وقد ساقتني ضرورة التعبير الى اكتشاف الشعر الحر".
"مَوْتَى، مَوْتَى، ضاعَ العددُ
مَوْتَى، موتَى، لم يَبْقَ غَدُ
في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ
لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ
هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ"
"أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ، على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو، تضطربُ"
"عشرةُ أمواتٍ، عشرونا
لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا"
ترى إلى أين ستسوقنا اليوم – نحن الشعراء المعاصرين، أو المحاصرين - ضرورة التعبير أمام وقع أرجل كوليرا الموت الجديد الذي راح يجوب شوارع الوطن من أقصاه إلى أقصاه..
لندن 22/6/2007
إقرأ أيضاً: