أخبرني الروائي الجزائري عبد العزيز غرمول وهو في طريقه إلى لبنان من أجل المشاركة في تظاهرة ثقافية تتناول أعماله بالنقد والتحليل، بأن رواياته لا تزال تعيش الحصار في الجزائر. يبدو هذا التصريح غريبا حين نعلم أن غرمول هو الرئيس الحالي لاتحاد الكتّاب في الجزائر، فماذا عن الكتّاب الآخرين الذين لا يجدون مؤسسة جزائرية تتبنى أعمالهم المكتوبة باللغة العربية؟ وهل انتهى زمن الصراع والشتات اللغوي أم أن ذلك لا يزال حلما لدى كتّاب الرواية الجزائرية اليوم؟
غواية الفرنسية
فلنعد قليلا إلى التاريخ للاقتراب أكثر من الواقع. حين دخل المستعمر الفرنسي الجزائر كان اوفد معه بعض كتّابه الكبار مثل غوستاف فلوبير وغي دو موباسان، وفي مطالع القرن العشرين ولد في الجزائر او استقر فيها عدد كبير من الروائيين الفرنسيين إلى أن تأسست "مدرسة الجزائر" التي كان يرأسها ألبر كامو، ونجمت عن هذا التراكم التاريخي ولادة الجيل الأكثر تأثيرا في الأدب الجزائري الحديث: محمد ديب، كاتب ياسين، مالك حداد، آسيا جبار...الخ، وهو الجيل الذي سيواصل الكتابة باللغة الفرنسية لكونها اللغة التي كانت تتيح له التواصل مع الآخر، الذي صار جزءاً من الجزائر وصارت الجزائر جزءاً منه بقطع النظر طبعا عن الشرط الكولونيالي (132 عاماً من الاستعمار الفرنسي). على رغم محاولات الكتابة بالعربية خلال الأربعينات، فإن الرواية الجزائرية العربية لم تنطلق بشكل حقيقي إلا في السبعينات مع عبد الحميد بن هدوفة والطاهر وطار وواسيني الأعرج وخلاص الجيلاني وسواهم، واتخذت مسارا آخر مع جيل التسعينات: أحلام مستغانمي وبشير مفتي وزهرة الديك...الخ.
بحسب الاستطلاع الذي قمنا به، اكتشفنا حقيقتين: الاولى أن الأعمال المكتوبة بالفرنسية لم تنل حظها من الانتشار في الاوساط الثقافية العربية، والثانية أن الرواية المكتوبة بالعربية لا تزال غريبة في الحياة الأدبية الجزائرية، فضلا عن أن الرواية الجزائرية بلغتيها العربية والفرنسية لم تنل حقها في المشهد الثقافي المشرقي.
أعمال عدة لاقت ترحيبا كبيرا وحفاوة هائلة في الاوساط الاوروبية والفرنسية خصوصا، وخلّفت صدى وفتحت مساحة شاسعة من المناقشة والجدال مثل "الفانتازيا" لآسيا جبار و"ابن الفقير" لمولود فرعون و"نجمة" لكاتب ياسين و"الدار الكبيرة" لمحمد ديب و"الشقاء في خطر" لمالك حداد وغيرها. لكن الأعمال الكبيرة لم تجد صدى عميقاً في الاوساط الثقافية العربية لسببين: لكونها لم تترجم إلى العربية او لكون القارئ العربي لم يسمع بها أصلا، وهذا هو الأمرّ.
يقول الباحث الجزائري شبوب بوطالب: "أعمال الروائي ياسمينة خضرا (اسم نسائي مستعار للروائي العسكري السابق محمد مولسهول) حازت إعجابا ضخما في اوروبا حيث نشرت في عدد من اللغات بينما لم يشرع الجزائريون في قراءتها إلا أخيرا، وخذ قياسا على ذلك الكثير من الأدباء والأعمال". حين نسأل عن سر اختيار الفرنسية كلغة لكتابة عمل جزائري، نجد الجواب عند الروائي أمين الزاوي: "حين أكتب باللغة الفرنسية أجد نفسي أكثر راحة وحرية لقول أبعاد الإبداع، بعيدا عن التابوهات. أشعر أنني فنان يمارس، يخطئ، ينكسر، هذه هي غوايتي. أما حين أكتب بالعربية فإني أحمل في رأسي مجموعة من الحسابات". يؤكد الزاوي أن مشكلة العربية في الجزائر وفي العالم العربي كامنة في المؤسسات التي تدير هذه اللغة، ويرى صاحب رواية "الرعشة" أن محنة المثقفين الجزائريين خلال سطوة الإرهاب ومؤازرة الأنتلجنسيا الفرنسية لهم حينذاك في ظل غياب مساندة عربية حقيقية، هو ما جعل الجيل الجديد من الكتاب الجزائريين يعيد النظر في مفهوم اللغة ومفهوم الصديق، حيث اتجه معظمهم الى الكتابة بالفرنسية. على الرغم من ذلك ينتصر أمين الزاوي للغة العربية، إذ يؤكد أن نجاح باولو كويلو وغبريال غارثيا ماركيز وأستورياس راجع إلى الاعتماد على أساليب السرد العربي.
حين نسأل الروائي بشير مفتي، وهو الأمين العام لرابطة كتّاب الاختلاف والمسوؤل عن القسم الثقافي لجريدة "الجزائر نيوز"، عما إذا كان هناك الآن فعلا صراع بين الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية وتلك المتكوبة بالعربية، يجيب: "لا أظن أنه يوجد أي صراع بين المكتوب بالعربية، والمكتوب بالفرنسية على المستوى الأدبي، فكلمة صراع ربما ترتبط بمصالح أفراد ونخب في مجالات أخرى. لكن هذا شيء مستبعد على مستوى الإبداع على ما أعتقد. لكن الكتابة بالفرنسية والنشر في فرنسا طبعا يشكلان فرصة ذهبية لا تتاحان بسهولة للكاتب المعرّب إلا في حالة الترجمة، وهذا ما يجعل فرص الظهور والاشتهار للمكتوب بالفرنسية أكثر حظا من ذاك المكتوب بالعربية". ويؤكد بشير مفتي الذي صدرت روايته الأخيرة، "أشجار القيامة"، عن "دار العرب للعلوم" في لبنان، أن الصراع اللغوي عرفته الجزائر بعد الاستقلال وكان مرتبطا بمصالح فئات ونخب تنتمي الى مجالين مختلفين، لكن هذا الصراع وصل الى طريق مسدود. اليوم يوجد تعايش وحوار بين أجيال الكتّاب الجدد في الجزائر، سواء أكتبوا بالعربية أو بالفرنسية وهم يتنافسون في حدود التنافس الأدبي لا غير.
لكن الروائي واسيني الأعرج الذي يكتب باللغتين معا يعترف بأن الفرنسية أنقذته وأعانته لإيصال ما كان يريده، لأن العربية بحسب قوله كانت مأزومة كوضع وليس كلغة. يقول الكاتب الذي يعيش بين الجزائر وباريس: "اللغة تشبه أبناءها، تتآزر بتآزر أبنائها، فليس هناك حل معجزة، وكمثال على ذلك "ليلة المقام" التي كان من المفروض أن تنشر بالعربية وبعدها بالفرنسية، لكن حدث العكس. الشيء نفسه حدث مع "ضمير الغائب" لأن دور النشر فضلت الطبعة الفرنسية على العربية خوفا عليَّ وخوفا على حالها".
نتذكر هنا طبعا أن واسيني الأعرج تعرض لتهمة التكفير وتم تهديده بالقتل مما اضطره إلى مغادرة الجزائر، وذلك خلال السنوات الاولى من التسعينات حين انتشرت في الجزائر لائحة سوداء تضم أسماء المثقفين الذين أباحت دمهم الحركات الإسلامية السياسية.
يبدو أن الروائيين الجزائريين الذين يكتبون باللغة الفرنسية هم في وضع أرحب. هذا إذا لخصنا معايير الوضع الجيد في الشهرة والانتشار والتأثير والتداول. لذلك يرى شبوب بوطالب أنه "يمكن القول بدون تحفظ بأن الكتّاب باللغة الفرنسية لا يضعون ضمن قائمة اهتماماتهم القريبة والبعيدة طموح الانتشار عربيا، ذلك أن جمهورهم محض اوروبي، وهم يحققون النجاح تلو النجاح معه، فلماذا يلتفتون الى غيره؟".
حين نستوضح رئيس اتحاد كتاب الجزائر عبد العزيز غرمول نراه يقول: "آسف، هذا ليس صحيحا تماما، الرواية الجزائرية اليوم رواية عربية بامتياز، وأهم كتاب الرواية الجزائرية يكتبون بالعربية، وإذا كانت لدينا كتابات بالفرنسية فلأنها موجهة الى القراء بالفرنسية لأسباب سياسية، ليست أدبية ولا لغوية"، مضيفاً: "نحن نتفهم بعض الكتاب الذين يرغبون في توسيع دائرة مقروئيتهم داخل هذه اللغة المفتوحة على الترجمات إلى لغات أخرى، لكننا نعلم أن توفيقهم محدود وتأثيرهم أيضا محدود. من الضروري تصحيح فكرة مشرقية بحتة عن الجزائر، نحن لم نعد فرنكفونيين في تفكيرنا، ربما نستعمل هذه اللغة كغنيمة حرب، كما يقال، لكن الفرنسية لم تعد لغة الإبداع في الجزائر، أي لغة الأفكار والعواطف، وهذا في رأيي انتصار كبير للعربية".
المشكلة سياسية
ترى الكاتبة لميس سعيدي أن الصراع بين ما يُكتب بالفرنسية وما يكتب بالعربية لم ينته وأن سببه الحقيقي هو الرؤية الخاطئة لمفهوم الثقافة التي تصر على أنها في الدرجة الاولى ممارسة لغوية خاصة في مجال الأدب، متناسية أن ثقافة كل مجتمع هي قبل كل شيء مجموعة السلوكيات الاجتماعية والوجدانية وحتى الاقتصادية والسياسية لأفراده ومؤسساته. وهي في الأدب والفن، رصد لهذه السلوكيات بإحساس الخلاّق المرهف ورؤيته الفكرية العميقة وكيفية التعبير عن وجدان أفراد هذا المجتمع وهواجسهم وأحلامهم. تقول: "هذا الصراع يؤدي إلى إضعاف الثقافة الجزائرية بشكل عام انطلاقا من محاولة إقصاء أسماء كبيرة أثرت الثقافة الجزائرية والعالمية بإبداعاتها وبملامستها العميقة لملامح الشخصية الجزائرية، لا لشيء فقط إلاّ لأنها تكتب باللغة الفرنسية التي يعتبرها البعض خيانة للوطن والوطنية كما أدى إلى نبذ الكتابات باللغة العربية وعدم تشجيعها لأن كل ما هو عربي يمثل عند البعض الأخر منظاراً متخلفا للحضارة، وبين هذا وذاك تضيع مجهودات كبيرة للنهوض بثقافة جزائرية عصرية في صراع لم يخدم في النهاية إلا ثقافة الرداءة والجهل".
يرى الكاتب الجزائري سليم بوفنداسة، وهو المسؤول عن القسم الثقافي في جريدة "النصر"، إحدى أعرق الصحف الجزائرية، أن منشأ الصراع يعود إلى ما عرفته الجزائر من مشادّات بين النخب المفرنسة التي لا تعرف العربية وتنظر إليها كلغة حاملة لايديولوجيا دينية، والنخب المعرّبة التي لا تعرف الفرنسية وتقاسم الطرف الآخر المشاعر نفسها بحيث يجد المفرنسون أنفسهم في الحكم والمعربون يجدون أنفسهم في الهامش، وهكذا يتم نقل الصراع من الحلبة السياسية إلى مسرح الأدب. حين نطرح عليه السؤال الآتي: هل الرواية المكتوبة بالفرنسية متفوقة ومدعومة فقط بسبب الاختيار اللغوي؟، يجيء جوابه حاسما: "لا يمكن الحديث عن صراع بين الرواية المكتوبة بالفرنسية والرواية المكتوبة بالعربية في الجزائر، فالمشكلة سياسية مصلحية وليست ثقافية. صحيح أن الأولى متفوقة، لأنها مكتوبة بلغة حاملة لموروث روائي، عكس العربية. لكن الصراع لم يحدث إلا في خيالات البعض، ودليلي أن الكثير من الروايات المكتوبة بالفرنسية ترجمها إلى العربية روائيون يكتبون بالعربية. والى ذلك فإن الأجيال الجديدة التي تتقن اللغتين أصبحت متعافية من هذا المرض القديم".
يبدو أن الرواية الجزائرية اليوم غير معنية بشكل أعمق بالبحث في أسباب الصراعات وأحكام القيمة المتباينة بقدر ما هي معنية في الأساس بالبحث عن مساحة شاسعة للتداول وعن توسيع دائرة الحضور في العالم العربي. أليس من الغريب جدا ألا نجد الكتب الجزائرية في أقرب سوق ثقافي إليها؟ أقصد المغرب طبعا!
النهار اللبنانية