هل للكتابة وطن؟ إذاً ما هي حدود هذا الوطن؟ ثم هل وطنُ الكاتب هو نفسه وطنُ الكتابة؟ وماذا عن الأدباء الذين يعيشون تجربة الهجرة؟ كيف تتأثر نصوصهم بظروف عيشهم الجديدة؟
كانت تلك الأسئلة جزءاً من نقاش جريء نظّمه المكتب المركزي في «اتحاد كتاب المغرب» ودعا إليه عدداً من الكتاب المغاربة من مختلف اللغات والجنسيات، ومن مختلف أجيال الهجرة أيضاً، في إطار فعاليات «الملتقى الأول للهجرة والإبداع» الذي احتضنته الرباط أواخر الشهر الماضي. ندوة حاولت أن تقيم حواراً أدبياً يتناول الهجرة كأفق للكتابة، ومنبع تخييلي لها، للوقوف على القيمة المضافة التي يجتهد مغاربة العالم من الكُتَّاب في ترسيخها وإضفائها على الإبداع المعاصر. هكذا أتيحت الفرصة أمام الروائي الهولندي من أصل مغربي عبد القادر بنعلي الذي حاز جائزة «ليبريس برايس» أهم تتويج أدبي في هولندا، ليكتشف أن المغرب يتبناه أيضاً ويرى تجربته جزءاً من إشعاع الأدب المغربي في العالم.
وبقدر ما كانت وضعية هذا الانتماء الصعب والمُعقَّد إلى عالمين متناقضين مصدر توتر بالنسبة الى أدباء الجيل الثاني في هولندا وفرنسا وبلجيكا، بقدر ما اكتشف مَن حضر ملتقى الرباط من هؤلاء أن هذا الانتماء المزدوج قد يكون عنصر غنىً أيضاً. فأدب هؤلاء الشباب سواء كان بالهولندية أو الفرنسية يبقى موسوماً بالتوتر الخلاق ومغموراً بروح التساؤل والقلق تجاه اللغة والذات والوطن، مثلما لاحظ عبد الحميد عقار رئيس الاتحاد. لكنّه مع ذلك هو أدب مُنتشٍ بلا يقينيته.
وإذا كان أغلب أدباء الجيل الثاني ممن يجهلون العربية ويكتبون بلغات أوطانهم الجديدة، روايات تستند أساساً الى ذاكرة طفولتهم البعيدة في قرى هذه «البلاد» القديمة المستلقية جنوب المتوسط، فإن صنفاً آخر من أدباء المهجر غادروا البلاد في سياقات مختلفة بعدما درسوا في الوطن وناضلوا داخله. وجدوا أنفسهم في النهاية موزعين بين «المنافي» والعواصم الأوروبية يعيشون حياة جديدة، لكنهم يحرصون على كتابتها بالعربية. هؤلاء ينتجون غالباً أعمالاً أدبية تتكئ على التجربة أكثر مما تستند الى الذاكرة. بل إن أحدهم لم يتردد خلال إحدى الجلسات في انتقاد «بعض الكتاب العراقيين الذين يأخذون المترو كل صباح في باريس لكنهم يكتبون عن النخل والصحراء، كأن كل عناصر حياتهم الجديدة لا تستحق منهم أن يتفاعلوا معها».
وإذا كان ملتقى الرباط مكّن العديد من الأدباء المغاربة الموزعين في عواصم العالم من الالتقاء لأول مرة على أرض الوطن/ الأم، فهو أتاح لهؤلاء أن يروا وجوههم وقاماتهم الأدبية في مرايا إخوانهم من الأدباء والنقاد المغاربة. هؤلاء النقاد رصدوا التحول الجذري الذي طال مسألة الهجرة والكتابة مقارنة بما كان متداولاً في السبعينيات. فبينما كان الجيل القديم، جيل إدريس الشرايبي والطاهر بنجلون وعبد اللطيف اللعبي، يعاني علاقة متوترة مع لغة المُستعمِر، ويخاف أن تستدرجه لغة الآخر الفرنسي إلى مواقعه الفكرية والسياسية، فإن الجيل الجديد من المبدعين المغاربة بالفرنسية يكتب متحرراً من عقدة المستعمر. الفرنسية بالنسبة له أداة بوح وحرية، لذا هو لا يتردد في مباغتة قرائه من الضفتين بمواضيع جريئة وبمساحات مفاجئة من البوح والتداعي. أما الذين هاجروا أطفالاً إلى بلدان أخرى غير فرنسا، كهولندا مثلاً، فيكتبون بنفس أكثر سخرية مما نجده لدى نظرائهم ممن يكتبون بلغة المستعمر القديم.
في لقاء الرباط، جلس أحمد المديني الآتي من باريس جنباً إلى جنب مع عبد القادر بنعلي القادم من أمستردام، وكان موجوداً طه عدنان وعيسى آيت بلعيز من بروكسل، وزكية خيرهم المقيمة في النرويج، محمد حمودان ومحمد الصالحي ومحمد العمراوي وسهام بوهلال ومحمد المزديوي المقيمون في فرنسا، محمد مسعاد القادم من ألمانيا، وأسماء أخرى انخرطت في إعادة صوغ الهوية الفردية والجماعية للمغاربة، هوية بمضمون وطني تعددي ديموقراطي، وبأفق كوني منفتح متلاقح، هوية حرة تنبذ التنميط والاختزال.
الأخبار
فبراير