دمشقُ ..حالمةٌ بعينين مفتوحتين وقلبٍ يضجُّ ..شوارعُ قاسيةُ الملامح ..قطيعٌ من الذهول تحت سماءٍ زجاجيةٍ ملونة .. دمشقُ الجارية .. حلمتُها وردٌ جوريٌ يتنفسُ بهدوءٍ كرموشٍ تحلم .. خلفها حشدٌ من الانكسارات .. والأملُ يقفز كدوريٍ فوق الخرائب.
قدم معظمنا (شعراء الملف ) من خارج دمشق .. دخلناها كغزاةٍ أو عاشقين .. عيوننا تلمع وقلوبنا تهرّ من قلقٍ يشبه الجوع ..أغلبنا جاء للدراسة .. وهو يرتدي شجناً يشبه الشعر لندخل هذي الحانة الطرية .. وقتها .. حلمنا بحروبٍ سنخوضها .. حروبٍ لا منتصر فيها ولا مهزوم ..وفي الذاكرة ذلك الحراك الأدبي والسياسي الذي تنفسناه في حكايا الأهل .. حمى لذيذةٌ ومعدية تمتد من الهافانا إلى الروضة .. من الثقافي الروسي إلى الفرنسي ..من مسرح القباني إلى الحمراء .. ومن باب توما إلى ساروجة ..كثيراً ما صُدمنا بالفراغ واكتشفنا أن الفراغَ يُوجع أكثر من الحديد .. وفي جامعاتنا .. اجترَّ كلٌّ منّا وحدته وعريه فاكتفينا بثوراتٍ صغيرةٍ داخل قمصاننا وسط طوفان الرهابات .. وحينما أشهرنا رموشنا وحملنا القلب ترساً وخرجنا بأشعارنا .. اكتشفنا أن المعركة انتهت .. وأننا وصلنا متأخرين كضرباتٍ زائدةٍ في لوحةٍ محترقة .. والمقاتلون القدامى يبحثون عن نهايةٍ هادئة .. وبقايا الحرب تحولت إلى سجالٍ مريضٍ بين شعراء النثر و شعراء التفعيلة وإلى علاقاتٍ رخيصة للوصول إلى وسائل نشرٍ سلطويةٍ رخيصة .. اكتأبنا .. ومنّا من دخل قوقعته يكتب فيها ويدخن روحه بهدوءٍ .. ومنّا من توقف عن الحلم .. ومنّا من آلمه كبرياؤه كدمَّلٍ فسار في درب الدونكيشوت .. وصوت الماغوط المبحوح يتسرب في التراب " دمشقُ يا عربةَ السبايا الوردية / وأنا راقدٌ في غرفتي / أكتب وأحلم وأرنو إلى المارة / من قلب السماء العارية / أسمع وجيب لحمك العاري " .. افترقنا قبل أن نجتمع .. ووحدها دمشق تجمع شعراءها والشعراء القادمين من خارجها غزاةً لننام جميعاً حولهَا كصغار القطط ونعضَّها حين يفيض بنا الألم .
مرّ زمنٌ ليس بالقصير ليبدأ كلٌّ منّا باكتشافها مرةً أخرى .. ولم تعد دمشق .. أصبحت دمشقاتٍ في زخم الحياة المخادع الذي يجمع جرمانا بجنونها مع الميدان بعقليته المحافظة ومزّة جبل بقرويتها والمالكي بزيفه البرجوازي و ... والكل محشورٌ في نفس السبطانةِ .. مدنٌ متعددة باسم دمشقَ .. نسيجٌ اجتماعيٌ هجينٌ من مختلف مناطق سورية وطوائفها وأقلياتها وقومياتها .. متنافرٌ لحدود الألم أحياناً .. زحامٌ نَزِقٌ ..كذبٌ وأصالةٌ لُونت بمكياجٍ رخيصٍ فبدت كمهرجٍ لا يعرف إن كان دوره أن يضحك الناس أم يُبكيها أم يتركها تتعفن في المقاعد .. ووحدها ثقافة الخوف والإقصاء تسيطر على كل المناطق .. وأعتقد أن إحدى نكهات دمشق الخاصة هي هذه المعادلة الغريبة فكثيرٌ من سكانها متثاقفون مع أنا متضخمة لكنها مُروّضَةٌ جيداً والوحل يغطي حبالها الصوتية .. نكهةٌ تميزها عن بيروت والقاهرة وعمّان .. وفي النهاية تبقى دمشق .. الآسرةُ ..حنينٌ بضٌ .. وشبقْ .. فوضى تعتري أي شاعرٍ فيها وبشكلٍ خاصٍ من جيلنا الشاب .. وقد حاولت في هذا الملف الصغير تقديم دمشق عبر أرواح الشعراء المشاركين على اختلاف أساليبهم واتجاهاتهم بكل ما فيهم من جمالٍ وعيوب وكلهم من خارج دمشق باستثناء خالد الاختيار ، وأفترض أن هذه ميزة لا نقيصة في دمشقَ أميرة الثقافة العربية لعام عاصمتها لعام 2008 .. نصوصٌ تقدّم نفسها ، وأتحاشى البحث فيها ودراستها في هذه المقدمة فالقارئ أجدر بذلك وله حرية التفاعل وإعادة تشكيل ملامحها .. وما هذه المقدمة إلا محاولة شخصية للكتابة عن أنثى مربكة .. قديسة وماجنة.. اسمها دمشق.
سينشر الملف على قسمين وفيه نصوص لعدد من الشعراء من ضمن عدد كبير من الشعراء الشباب كنت أتمنى أن يتضمن الملف نتاجهم فيما لو سمحت الظروف بذلك .
شعراء القسم الأول:
- علي جازو
- أديب حسن محمد
- عمر إدلبي
- عبدالوهاب عزاوي
وشعراء القسم الثاني:
- حكمت شافي الأسعد
- محمد ديب
- سمر علوش
- علا حسامو
- خالد الاختيار
سور البرلمان
يا سورُ،يا نبات وحصاد اليأس،:
ألا تنظرُ وجوهَ عابري شارع البرلمان!؟
إنهم يبصرون الياسمين كنجوم بيضاء على حوافك الصلدة!
يا سورُ:كيف تمضي أيامك السجينة في صخرك المسودّ!؟
ألا ترى ثلاثة عشر جندياً جائعين ضجرين،
وبنادقهم المزيتة حديثاً مركونة في ظلالك القصيرة الباردة؟؛
مستندين بمرافقهم الهزيلة على قضبان لوحات الإعلان المربعة الخفيضة،وعيونهم الغائرة الحذرة المترددة تراقبُ نساء شارع العابد ذوات الأحذية المكشوفة والسترات المتهدلة فوق
خصور بلاستيكية لينة ؟
أيها السور القديم هل لمسك يوماً النوابُ والوزراء وسائقو سياراتهم السوداء اللامعة كطفحٍ يموّهُ جلْدَ مياه قذرة؟
هل رقّ الهواء لحظةً داخل رئاتهم
وهم يمشون قرب برتقالاتك الخضراء الساقطة؛
تناثرت تحت أشجار باحتك المنقطة بذرق الغربان
و بقع شمس نهارات الخريف الخاملة ؟
يا سور البرلمان يا سور البرلمان:
هلّا تأمّلْتَ عصافير صغيرة صغيرة وترغّلات ينقرنَ حوافّ العشب مضاءً بذهبٍ خريفيّ عكرٍ
كأنفاس العاطلين عن العمل الحانقة؟
وجدرانك الشبيهة بآذان صماء مرهقة،
لما لا تسمع صرير أبواب المحلات،أتلفها جنون إذاعات ال ف.م،
عندما تقفل في الثامنة مساءً مثلما تنغلق بحيرة على وجه غيمة داكنة ويحلّ الظلام والخواء باكرين على قلب دمشق الفقيرة؟
وحيداً وخفيفاً كروح الميت ،أهبطُ بين ذراعيك اليابستين،
أسفل رايتك القماشية العالية المحصنة،خائفاً أهمسُ:
يا سور البرلمان.ياسور البرلمان!!
دمشقُ يا أبي
دمشق يا أبي
تعود من شؤونها
لتشعل الأسى
وتضرم الأنين في مسائيَ الذي
أقام في عيوننا
وغاض في بكائنا
أراكَ تحتذي
همومك الثقيلة التي أحاط جيشها
بقلبك العليل ذات قصّةٍ
كتبتها بحزنكَ النقيْ
أراك... كم أراك في كآبتي
أراكَ في بكائيَ الشقيْ
أراكَ قدْ عَبَرتنا
وما رأيتُ نجمة تساقطتْ
ولا لمحتُ نيزكاً يهزُّ مرقدي...!!
وعندما قبضتُ حسرتي
توهّجتْ كجمرةٍ
وها أنا..... أضَعْتُ من يدي
يدي..!!
وصُغتُ من عناقكَ القصير جنّتي..!!
فكيف يا دمشقُ
ترقصين في عزائنا...؟؟
وكيف في تجرّدٍ
تعتّقين يأسنا الفتيْ...؟؟
وكيف...
كيف أرجِعُ الحنين
نحو وكره الخفيْ
..........
إذاً.... عليكِ لعنتي ....!!!
ودمعتي التي على ترابِ والديْ
دمشق يا أبي
قصيدةٌ
تخلّصُ المكان من مكانه
وتطلِقُ المراثيَ الضريرة التي
تقود عمْرنا الشقيْ
وها أنا هرمتُ يا أبي
ولم أزلْ
أفرُّ من متاهة لأختها
ولم أزلْ
مريدَكَ الصغيرَ في قماطه النديْ....!!
من مجموعة "وثامنهم حزنهم" إصدارات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2004
الأميـرة
المقطع الأول من القصيدة
الآنَ
وبعد خلوِّ الشارعِ
من خطواتِ سوايَ
سأمنح هذا البردَ غيومَ ضبابٍ
من أنفاسي،
هذا البرد قديمٌ
أقدم من أبواب دمشقَ السبعةِ ،
هذا البرد قديمٌ،
كيف سأقفل قلبَ المرجة ِ(*)
دون هبوبِ عواصفهِ؟
من يحرس نزلةَ رامي (**)
من خيّالتهِ؟
الآن وبعد خلوِّ الشام الحلوةِ
من أنفاس سوايَ،
ومن عبث الغرباءْ.
لا يعلم تأويلَ الأبوابِ السبعةِ
إلا ثامنُها ،
ولهذا قيلَ : سيبحث عنه الشعرُ
و يتبعه الغاوونَ،
ويمشي النورُ على قدمينِ
من الماساتِ إليهِ ،
فإن آنستم ورداً بعد خطاهُ
فتلك قصائد ماءْ.
في الليلِ، تقول القصةُ:
تغفو الشامُ على نورٍ،
فالعتمةُ تخشى
أن تحتاجَ دمشقُ قناديلاً،
فتغضُّ الطرفَ عن النجماتِ
لتسهرَ في شرفات مآذنها
وأنا،
في هدأةِ هذا البردِ
أريق خُطاي بلا جهةٍ،
إلا ما تحفظه من ذاكرةٍ
للسيرِ وحيداً ،
بابُ دمشقَ الثامنُ ،
ذاك الغائبُ حتى يأتي وعدُ الحبِّ ،
فتصبح كلُّ حدائقها
لعصافيرِ العشَّاقِ سماءْ.
وتقول القصةُ :
أن قرنفلةً بيضاءَ
- وقبْل الساحرِ كانت بنتاً تخلب لبَّ الوردِ –
أرادت أن تهدي لأمير البستان العالي
عطراً من أدمعها ،
ليفكَّ بلمسته أقفالَ الساحرِ ،
طار عبيرُ مفاتنها ،
فرأى حرّاسَ الساحرِ
يصطفّون على الأسوارِ،
فظلَّ يرفرف بحثاً عن بابٍ أعلى من قامتهم ،
حتّى تركَتْهُ الشمسُ
وحيداً بين أسىً ومساءْ .
وهناكَ
كأنّ القصّةَ أُتلِفَ بعضُ صحائفها ،
لكنَّ عبيرَ مفاتنها
يبدو قد أوصل مرسالاً عطريّاً
لم يذكره السردُ ،
فآخرُ سطرٍ في صفحات القصةِ يروي :
إنَّ قرنفلةً بيضاءَ
غدت – والساحرُ مَيْتٌ – بنتاً
تخلب لُبَّ الوردِ ،
تزوّجها في فصل العطرِ
أميرُ البستان العالي .
لابدَّ إذاً
من بابٍ لم يحرسْهُ الساحرُ ،
يعلم تأويلَ الأبوابِ السبعةِ ،
بابُ الشّامِ الثامنُ ،
حيث أريقُ خطاي إليهِ بلا جهةٍ
إلا روحي .
خريف عام 2003
صلاة
أيتها الآثمة
يا نحيلة الوجه والثديين
بأربع بقعٍ كحليةٍ
حول العينين والركبتين
الكلاب تجري في الأزقةِ
والفوانيس رؤوسٌ منكسة
الليل صلبٌ
والقمر ذكر نحلٍ لا يرفّ
ساقاك مكسوتان بالرايات
وشعارات النصر
وذكريات العشاق أو المتظاهرين بالعشق
صراخِ المثقفين أو المتثاقفين
وصايا الميتين أو المقبلين على الموت
في مستنقعك الرملي
وأنت ترفعين سماءك وشاحاً ناقصاً
يستر عورتك
أيتها الشائخة
كعاشقةٍ فقدت حبيبها للتو
أكرهك أحياناً
كما يكره الصغار أمهاتهم
أو يكره البالغون ذكرياتهم المحرجة
لكني أنثني عند خصرك
وأبكي كجروٍ
ساقاي وشفتاي ترتعشان
وأنا أغني بصوتٍ مبحوح
لتنامي ..
يا غائرة العينين
أيتها الآثمة
افتحي عروة القميص
ليروا آثار العضِّ
البقعَ الزرقاءَ الحديثةَ
والبنيّةَ الطاعنة في السنِّ
أريهم حلمتكِ النازفة
واروي لهم كيف صرختِ دون صوتٍ
السعيهم بأنينك المكبوتِ
ليفجر أغشية الطبل في آذانهم
أطلقي سرب الهواجسِ
تحركي
ابكي
افعلي أي شيءٍ
لكنْ
لا تموتي بصمتٍ ..
يا دمشق .
14/12/2007
عن مجلة عشتروت