يضعونك في القلق منذ البداية، يلعبون بأعصابك المنهكة كما يلعب طفل بدميته المهترئة.. هذا هو سرهم.. ففي البداية تظهر أكثر من يد لأكثر من طفل يقومون بتمزيق ورق الحائط كي يفضحوا أسماء الممثلين وطاقم الإنتاج، والموسيقى تشحذ الصورة!! بداية مربكة وتفتح الباب للشك في ماهية هؤلاء الأطفال وهل هم الجزء الذي سنتعاطف معه في هذا الفيلم أم العكس؟
فيلم ''الميتم'' الإسباني استحوذ على أفكاري وأعاد ترتيب تصنيفي لأفلام الرعب والإثارة، إذ يقوم بإنتاجه المنتج والمخرج والمؤلف المكسيكي جويليرمو ديل تورو (مخرج فيلم متاهة بان الذي يعرض حالياً في السينما) ويكتب نصه السينمائي الكاتب سيرجيو سانشيز، ويخرج الفيلم المخرج الإسباني خوان أنطونيو بيونا الذي يطرق باب الفيلم الروائي الطويل بهذا الفيلم الذي يعتبر فيلمه الطويل الأول، لكنه يحوي من الخبرة الإخراجية ما يؤهله لدخول تصفيات ترشيحات الأوسكار 2007 لأفضل فيلم أجنبي لكنه لم يتأهل للدخول في الترشيحات الخمسة النهائية. مع ذلك فقد حصل على 14 ترشيحاً (ومن ضمنها أفضل فيلم) في جوائز غويا التي تعتبر بمثابة الأوسكار الأسباني، وقد حصد منها سبعة جوائز. وبعد اجتماع هؤلاء الثلاثة تبدأ لعبة اختيار الممثلين الرئيسيين للفيلم وهم: الأم (بيلين رويدا) والطفل (روجر برينسيب) والزوج (فيرناندو كايو) والوسيطة الروحية (جيرالدين شابلن ابنة الممثل الراحل شارلي شابلن) وهي أكثر الشخصيات رعباً في هذا الفيلم، يظل العنصر الأهم في هذا الفيلم/القصيدة.. هو الموسيقى، التي تم اختيار المؤلف الموسيقي فرناندو فيلازكيز كي يكتبها باحتراف، ويضع فيها ما تيسر له من نغمات تعبق بالرعب والإرباك.. فهذا الفنان الذي تمرس في العزف على آلة التشيللو مع مجموعة متنوعة من الفرق الأوركسترالية في إسبانيا وخارجها، ما جعله بارعاً في الكتابة اللحنية للآلات الوترية بمختلف أنواعها، ففي اعتقادي إن فيلم مثل ''الميتم'' يحتاج إلى هذا النوع من الكتابة الموسيقية التي تمعن في إظهار الحالة النفسية للشخص وللمكان في الوقت ذاته، بآلات موسيقية ذات صوت مستمر مثل آلة الكمان في منطقتها الحادة، بجانب التشيللو في حنانه إضافة الى كآبة آلة الفيولا مسنودة بنبض الكونترباص، فالآلات التي تعزف بأقواس، تمكن المؤلف (والعازف في الوقت نفسه) من تفسير الحالة السيكولوجية من خلال نوع سحب القوس على الوتر، ما يضفي على المشهد شرارة كامنة لا يمكن اقتفاؤها من دون الموسيقى، وقد استلهم فرناندو فيلازكيز موسيقاه من البيئة والموروث الإسباني بكل تفاصيله، لكن دون أن يقع في الخطأ الذي سبقه له مؤلفون كثيرون من إسبانيا وهو إما الإفراط في كتابة موسيقى غجرية بصورتها التقليدية أو اللجوء إلى التغريب الموسيقي، ما يجعل الهوية الإسبانية متأرجحة بشكل مربك لدى المؤلف والمستمع، كما فعل من قبله المؤلف الموسيقي والمخرج المبدع رغم صغر سنه ''اليخاندرو أمينابار'' في فيلم ''الآخرون'' الذي قامت ببطولته نيكول كيدمان، لكنه تجاوزها في أفلام أخرى بعد ذلك وقبله، وقلة هم الذي ينتبهون لهذه الإشكالية التي يعتبرها البعض ميزة، ومن المؤلفين الأسبان الذين حافظوا على هويتهم الإسبانية في موسيقاهم المصاحبة للأفلام والمكتوبة للأوركسترا هو ''ألبيرتو إجليسياس'' الذي كتب موسيقى فيلم ''تحدث معها''، مع أن الفيلم كان من ضمن شخوصه امرأة تمتهن مصارعة الثيران، وهذا يعتبر عذراً جاهزاً كي تتمرغ الموسيقى في نيران الغجر لتحكي نغماتها، إلا أنه يعطي المشهد حقه من الغجرية ويركز على الموضوع الأساسي للفيلم (الذي يتجاوز هذا كله) وهو من الأفلام التي أسرتني للمخرج الكبير ''المودوفار''.
كان تدفق الألحان الرئيسية في فيلم ''الميتم'' واضحاً ومكتوباً بأسلوب متناه في الشاعرية التي تشبه شاعرية الموضوع الذي يدور حوله الفيلم بجانب الكادرات البصرية التي اقترحها المخرج بضوئها وظلها اللذين كانا محور المشهد. فخبرة فيلازكيز في موسيقى الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة بجانب كتابته مجموعة من الأعمال الموسيقية في صورتها الكلاسيكية، جعلته جديراً بكثير من الجوائز الخاصة بموسيقى الأفلام في محافل مختلفة حول العالم، ويبدو أنه سيتخصص في موسيقى أفلام الرعب بعد كتابته مجموعة كبيرة من الأفلام التي تتناول قضايا مرعبة مع مخرجين من إسبانيا وخارجها.
طاقم متكامل من العمل المتقن في كل تفاصيله، فنانون يتقنون اللعب على المشاعر بأدوات يافعة وجريئة. ومع أن الكلمات لا تسعفني كي أصف المشهد سينمائياً فإنني أعرف أن في هذا الفيلم (الأول لمخرجه) سيكون نموذجاً لكثير من المخرجين الجدد الذين يصغون بأعينهم ويتركون لآذانهم بقية الحواس.
الوطن
13 يونيو 2008