عرف أدونيس سواء في أشعاره أو كتاباته، التي يأتي على رأسها "الثابت والمتحول" بمناهضته لقيم التقليد والتقوقع على الذات. أدونيس حضر إلى برلين لعرض أطروحاته النقدية حول الديانات التوحيدية، بدعوة من "الديوان الشرقي ـ الغربي".
لم تبرح الديانات التوحيدية تشغل بال المؤرخين والأنثروبولوجيين والفلاسفة ورجال الدين. ورغم أنها استطاعت أن تعصف بديانات أخرى كثيرة، وما يصطلح عليه بالديانات الوثنية، وأن تحتل المشهد الديني بل والسياسي لقرون طويلة، إلا أن العديد من الفلاسفة والمفكرين ظلوا ينظرون إليها بعين متشككة. وينضم أدونيس بأطروحاته النقدية حول الوحدانية، إلى كوكبة من المفكرين القدامى والمعاصرين، اللذين عرفوا بانتقاداتهم الصارمة والجارحة أحيانا للديانات التوحيدية. ونكتفي في هذا السياق بالتنويه بشخصيتين فكريتين داخل المجال الثقافي الألماني المعاصر، وهما عالم المصريات يان آسمان والفيلسوف أودو ماركفارد.
الوحدانية والعنف
الكثير من البلدان العربية باتت اليوم مسرحاً للعنف بمختلف أشكاله، يان آسمان يطرح في محاضرته الشهيرة :"الوحدانية ولغة العنف" سؤالا مشروعا وفاضحا في آن واحد:"لماذا تصف النصوص الإنجيلية تأسيس وفرض الديانات التوحيدية بواسطة صور عنيفة؟ وهل ترتبط فكرة الوحدانية، التي تؤكد على عبادة إله واحد بدلا من آلهة متعددة أو التي تفرق بين الدين الصحيح والدين الخاطئ، بين إله حقيقي وآلهة خاطئة، هل ترتبط بالعنف؟". آسمان يجيب على سؤاله بأن الوحدانية دين، تلعب فيه موضوعات العنف والحق والذنب دورا محوريا، مقارنة بالأديان الوثنية.
هذه الفكرة أكدها أدونيس في محاضرته البرلينية، التي عرض فيها أطروحاته النقدية حول الديانات التوحيدية تلبية لدعوة رابطة "الديوان الشرقي ـ الغربي"، حين أشار إلى أن البعد الأيديولوجي كان ضعيفا في الوثنية، وإلى أن الأديان التوحيدية تخطت عتبة الإيمان وتحولت إلى إيديولوجيا: "الإيمان الديني هو الذي يصوغ البعد السياسي في الأديان التوحيدية. إسرائيل تطالب الفلسطينيين بأن يعترفوا بها بوصفها دولة يهودية. وطبعا مقابل هذه الدولة اليهودية ستكون هناك دولة إسلامية".
في الماضي كانت الآلهة تتصارع وكان البشر يتفرجون، أما اليوم فيتم قتل البشر باسم الإله نفسه، رغم أنه يفترض في الوحدانية، أن البشر تخطوا المرحلة الوثنية إلى مرحلة جديدة يسودها السلام والمحبة. لكن التجربة التاريخية تؤكد بأن الحروب بدأت مع الوحدانيات: "القتل، الأنماط العنصرة وكل أشكال الهولوكست، كل ذلك تم باسم الوحدانية".
دفاعا عن الوثنية والتعدد
أدونيس يرى أن المشكلة تكمن في الدين نفسه. لم تنتج الوحدانية في نظر أدونيس سوى الحروب والدمار، كما يرى أن مجرد المقارنة بين الوحدانية والوثنية، ستظهر بأن العصر الوثني كان أكثر إبداعا من عصر التوحيد سواء في الفن أو الفلسفة أو الأدب. إن الوحدانية، يقول أدونيس:"اختزلت العالم في رؤية محددة، وكانت إيذانا بانحطاط البشرية، فما يهيمن اليوم هو لغة العنف والتكفير باسم الدين".
إن الرؤية الوحدانية، وفق رؤية أدونيس تقول إن "نبيها هو النبي الأخير. ثانيا إن الحقيقة التي ينقلها هذا النبي الأخير هي الحقيقة الأخيرة، ومعنى ذلك أن الإنسان ليس له ما يضيفه، وما عليه سوى أن يطيع وينفذ وأقسى ما يمكنه فعله هو تفسير النص. إن الوحدانية تضع العالم أمام باب مغلق. وليس الإنسان وحده من لا يستطيع أن يضيف شيئا ولكن الإله نفسه لم يعد له ما يقوله".
عن هذه الفكرة سبق ودافع الفيلسوف الألماني أودو ماركفارد، الذي ما برح يتساءل: ماذا تنفعنا الحقيقة إذا صنعت منا عبيدا؟ فالوحدانية في نظره تتعارض مع الحرية، لأنها لا تسمح سوى بحقيقة واحدة وتاريخ وحيد، في حين أن تعدد الأديان هو من يحترم فردية الإنسان، ويؤسس لها. إذ كما يقول في "سولا ديفيزيوني":"فصل السلطة داخل المطلق، هو من يمنح الإنسان حريته، ومن يسمح له بتحقيق ذاته كفرد".
اختزال مشاكل العالم في الدين
غير أن أدونيس لا يرى أن مشكلة الدين تكمن في التطبيق، بل إنه يؤكد على أن المشكلة تكمن في الدين نفسه، مؤكدا بأن الحقيقة تاريخية وليس سجينة نص أو معتقد. لكنه أشار إلى أنه لا ينتقد سوى الدين الذي يتخطى الفرد ليفرض نفسه على الجماعة، وليحتكر الحقيقة لنفسه:"حين يتحول الدين إلى مؤسسة أو سلطة، حين يحشر الإله نفسه في العالم يتحول إلى مشكلة".
يرى أدونيس بأن الأديان الوحدانية شاخت، ولا يمكن حل مشكلات عالم اليوم، إلا بإعادة النظر جذريا في الرؤية الوحدانية للإنسان والعالم، معرجا على واقع المجتمع العربي المعاصر، المحكوم بالرؤية الوحدانية، شاهدا حيا، على عبث المطلق بالحياة، والديني بالدنيوي، والماضي بالحاضر، ونتيجة طبيعية لثقافة الاستسلام لاجتهاد السلف.
كان أدونيس منسجما مع أطروحاته السابقة في أطروحاته حول الوحدانية، ولم يتوقف عن ممارسة سياسة "المحو"، "أمحو وجهي، أكتشف وجهي". فالابن لا يتحرر إلا إذا قتل أباه، على حد تعبير فرويد. لكن قد ننظر اليوم إلى أطروحات أدونيس، كنوع من التفكير المتقادم، المسكون في اللاوعي بالدين، أو الوجه الآخر للحقيقة الدينية. فنبرة المحاضرة الوثوقية، ونظرتها الثقافوية، التي تختزل مشاكل العالم في الدين، ورفضها المطلق لكل ما هو ديني، لا يمكنها أن تؤسس للتعدد وقد تؤسس لتطرف آخر في اتجاه، قد يكون صحيحا وقد لا يكون.
عن موقع (قنطرة 2008)
إقرأ أيضاً:-