كثيرةٌ هي الاتهاماتُ التي تُوجّه للتجارب الشعرية الجديدة، بعيدا، حتى، عن "جريرة" هجران الوزن الخليليّ المقدس. من هذه الاتهامات: الحديثُ عن اليوميّ المبذول والتخلي عن القضايا الكبرى، وغرقُ الشاعر في ذاته لدرجة الغياب التام للموضوع/ الآخر. ومنها كذلك سقوطُ، أو الإسقاط العمديّ، اللغةِ من عليائها حتى لم تعد في ذاتها أحدَ أركان الشعر، بل مجرد وعاء حامل له، ومن ثم يحسُنُ أن يتجرد الوعاءُ من زخارفه حتى يُشرق ما بداخله. فغاب المجازُ، أو كاد، واختفتْ جمالياتُ اللغة واللعبُ بها كما يليق بالشعر من المعلوم عنه بالضرورة. ورقّتِ اللغةُ وهشَّتْ حتى توحّد معجمان ظُنَّ ألا يلتقيان أبدا: معجمُ الشعر ومعجمُ نثار الحياة اليومية. هذه الاتهامات وغيرها اعتدنا، نحن الشعراءَ الجدد، على تلقيها كل يوم، فيما تتباين ردود أفعالنا بين مرارة حينا، وصمت أو هجوم أو استنكار أو ابتسام أو إشفاق أو يأس أو انزواء أحيانا أخرى. لا ننكر بعضها، ولا نقبل بعضها، ونؤكد ونفخر ببعضها كذلك. لكن الذي لا يُختلف حوله أن الشاعر الجديد أصبح أكثر إنصاتا للحياة الراهنة بضجيجها وعبثها ووحشيتها وكوميدياها. لم يعد ممكنا الآن استلابُه بنَجم يبرق في السماء وهو مغادرٌ مكانه منذ سنوات، ولا بشمس غير عادلة تحرق أمكنةً وتنسى أمكنةً فيسكنها الصقيع، ولا بقمر نعرف جميعنا أنه كاذب يعكس ضوءا ليس له. الشاعر الجديد لم يعد يصدق إلا ما يراه ويلمسه ويسمعه من أزيز طائرات وقتل أطفال وتسميم محاصيل بالإشعاع.
آمن أن قانون الأقوى يسود لذلك عمد في قصيدته إلى تحطيم كل سلطة. وهذه هي الحسنة، ربما الوحيدة، للخطاب ما بعد الحداثي الذي ابتكره الغرب في ستينات القرن الماضي بعدما تأمل الإنسانُ كيف خرّب البشرُ الكونَ في حربين مهولتين لا معنى لهما. لصالح مَن هذا التشويه والدمار؟ لصالح الصناعة وبيع السلاح والاستحواذ، لصالح سيادة العقل الذي آمن به الحداثيون، فانقلب عليهم ما بعد الحداثيين وانعكس ذلك على العمارة والفن التشكيلي والموسيقى والأدب بطبيعة الحال. الشعراء الجدد انغمسوا في تفاصيل الحياة اليومية، وتركوا جانبا القضايا الكبرى العالقة فوق مشجب التاريخ تنتظر حلا عُلويًّا في يد زعماء وساسة لم يعد يعنيهم الإنسان كإنسان بقدر ما تعنيهم أمور، لا تعني الفقراء في شيء، مثل السيادة والنفوذ وامتلاك زر تدمير العالم في لحظة لو شاءوا. نعم، تخلى الشاعرُ الجديد عن مكانه فوق الأوليمب المجيد لأنه أدرك أخيرا أنه أضعف من أن يغير العالم. لم يعد نبيًّا ولا فارسًا ولا مُجيبًا عن سؤال. بل غدا كلُّ همِّه أن يصوغ سؤالا مناسبا لكل ما يجري حوله، ولا إجابةَ ثمة. لأن طرح إجابةٍ ما، إن أمكن، يعني كارثةً كبرى.
لأن الإجابةَ تحتاج إلى تنفيذ، ومَن ينفّذ؟ أدرك الشاعرُ أن العالم جميلٌ هكذا بكل قبحه وفوضاه، ولا سبيل لإصلاح شأنه كما توهّم أفلاطون في جمهوريته، أو الفارابي في مدينته الفاضلة، أو توماس مور في مدينته الخيالية، أو كامبانيللا في مدينة الشمس. الشاعرُ التفت لذاته لأنه ببساطة أدرك أن إصلاحه هذه الذات وتعميره المتر المربع الواحد الذي يحيطه كاف جدا مادام المرء لا يقبض على زمام أمره ومادامت أرواحُ البشرية في يد ثلة صغيرة تتحكم في مصائر الجنس البشري. لم تعد القضايا الكبرى تشغل الشاعر الجديد لكن ما يعنيه حقًّا، وهو الأهم برأيي، هو أثر تلك الأزمات الكبرى على الفقراء والعجائز والضعفاء الموحودوين. فمع سقوط السلطات سقط البطلُ والفارس، فهو كان أحد أسباب دمار الكون، واحتلّ مكانه، ومكانته، المهمّشون والمنبوذون والمتروكون جانبا والمقصيّون عن دائرة الضوء.
أصبح الظلُّ هو البطل. فنجد تجارب شعراء جدد حفلت بالحديث عن هؤلاء "الأبطال الجدد". مثلما وجدنا في ديوان كرسيان متقابلان" للشاعر السكندري علاء خالد الذي أبطاله هم: الخادمة، والبوّاب، والكوّاء، ومحصّل الكهرباء، والنجّار، والكمساري، وعاملة النظافة في الفندق والعجوز التي أُرغمت على ترك بيت صباها، والعانس الوحيدة أبدا، والكهل الستيني الذي يرفض أن يبرح موضع الطفل المدلل لأم ماتت منذ زمن. ومثلما وجدنا عند الشاعر عماد أبو صالح حين تكلّم عن البنت التي تسكن مأوىً من الكرتون، وتبتسم طوال الوقت، فهي إن بكتْ ابتلّ البيتُ وسقط، وعادت من جديد إلى العراء. إن لم يكن الشعرُ عن هؤلاء وحول هؤلاء ولصالح هؤلاء، فعمن يكون؟ إن لم ينتصر الشعرُ لمن هجرتهم الدنيا فلا شعر ولا شعراء! صحيحٌ أن الرواد لم يغفلوا هذه النماذج كليّةً كما وجدنا المومس العمياء عند السيّاب وبائع الليمون ولاعب السيرك عند أحمد عبد المعطي حجازي وسواهما، لكن الفارق أن هؤلاء المأزومين غدوا متنًا كاملا لبعض الشعراء الجدد وليس هامشًا يظهر في قصيدة أو اثنتين خلال تجربة عريضة مُقفلة القوس. هذه التجارب وسواها تردُّ بحسم على مقولة إن الشعراء الجدد نسوا الموضوع واحتفوا بالذات وحدها. ورغم أن هذه المقولة في ذاتها تحتاج مراجعة منطقية وفلسفية ونقدية لأنها تشي وكأن الذاتَ والموضوعَ اثنان لا واحد، وهي مغالطة بظني لأن الموضوع لا يُرى إلا من خلال عين "الذات"، كما أن الذات طوال الوقت تتفاعل وتؤثر وتتأثر بالموضوع مما يجعلهما واحدا صحيحا لا ينفصمان، رغم ذلك ففي تأمل هذه التجارب ردٌّ على تهمة غياب الموضوع لصالح الذات. بل أن تجاربَ أخرى مثل ديوان "بالأمس فقدتُ زرًّا" للشاعر الشاب تامر فتحي، قد غيّبت الذات تماما فغدت الملابسُ والأقمشة هي الذاتَ والمُتكلّمَ والفاعلَ.
فقطع الملابس تولد وتنمو وتمرض وتتألم وتشيخ وتموت. لا وجود لذات الشاعر مطلقا في مجمل الديوان بعدما أعار الشاعرُ لسانَه ومشاعرَه وشِعرَه لقطع الملابس فاستنطقها بما تودُّ أن تقوله وتبثَّه لنا من هموم وأوجاع وشكوى. وهو ما تفعله الشاعرةُ الإنجليزية جو شابكوت في معظم قصائدها إذ تتكلم عن لسان فقاعة الصابون وقارورة الدواء والعنزة وثمرة الطماطم. وفي شعرية كهذه لابد أن تتراجع مركزيةُ اللغة وعلياؤها.
تتواضعُ وتتخلى عن زخرفها وأناقتها حتى يتّسقَ الشكلُ والمضمون، وهما أيضا كلٌّ وواحد صحيح لا ينفصم، فيغدو الكلامُ عن البسطاء بسيطا لا تقعّر فيه ولا بلاغة. هؤلاء، المضمون، هم من نلتقيهم "كل يوم" في حياتنا، ومن ثم توجّب أن يكون الحديثُ عنهم بلغة "كل يوم".
هؤلاء الشعراء يعرفون أن الشعر لم يعد يأتي من المجاز ومن اللغة بقدر ما هو مخبئ وكامن في الحياة. في حاراتها الخلفية المظلمة، في البيوت الصفيح والأحراش والعشش. وفي كل مكان تنأى عنه الشمسُ، غيرُ العادلة أبدا.