إذا كان لابد لكل خطاب هادف يحمل طيه رسالة تعود بالنفع على الإنسانية، فإن الشعر، وهو الفن الجميل، يسعى أيضا إلى ترجمة المشاعر الإنسانية وخواطرها في قوالب جميلة، لغوية دالة وإيقاعية مؤثرة، يبحث من خلالها ويكشف عن مظاهر الجمال والخير والحب ...تلك القيم التي توشك أن تنقرض، يرصدها انطلاقا من تجليات الكون والكائنات والطبيعة والأشياء، مركزية أو هامشية، كل في علاقة تأثير وتأثر..إنه يقدم بدوره دروسا إنسانية وأخلاقية ثاوية بين مفاصل النص، دعاتها وحكماؤها الكائنات والأشياء، تؤثث النص غالبا في صور وحكم وأوصاف ووصايا دفينة موجهة رسميا إلى الإنسان...وكلما كان النص الشعري محدود اللغة، مؤطر الصورة، مسور الموقف، مكثف الدلالة ...كان أقرب إلى عرض رسالته والوفاء بها..
ولعل القصيدة التصويرية الصغيرة أبلغ إلى ما نشير، ببساطتها وكثافتها الآسرة، البساطة في عرض الصورة الشعرية، والتقريرية العميقة التي تبطن في قعرها أكثر من فكرة وجودية، إذ أن فن التصوير يشتمل على أنماط دلالية عالية التشبع، تتقاطر منها الدلالات الصافية النقية؛ والصورة في الشعر أبلغ وأعمق منها في غيره على حد قول ليوناردو دافنشي:" يتفوق الشعر على التصوير في مجال الإيحاء بالكلمات، بينما يتفوق التصوير عليه في محاكاة الأحداث والوقائع " (1) ؛وما فائدة الصورة الملتقطة على حالها إن لم يتبناها الشعر وينفخ فيها من روحانيته، حيث يذوب الكثير من التفاصيل المتشعبة والتقارير الرحبة ، فالتصوير الشعري يستند إلى ما هو ميكرو تفصيلي وهامشي، لينتقل إلى ماهو ماكرو دلالي كبير، أي المركز، فأنت يمكنك أن تكتب الصورة بالكلمة، كما يمكنك أن تصور إحساساتك في القصيدة بالكلمات كما قال بيكاسو (2).
وتكمن أهمية التصوير في الشعر في التقاط صور الأشياء على سجيتها بالسهولة اللغوية الممتنعة الدلالة دون أقنعة بلاغية تجميلية، حتى ليغلب عليها التصوير العفوي، فتبدو القصيدة كآلة تصوير تلتقط العابر، ولكن بحكمة بالغة، في شكل لقطات وامضة غاية في التكثيف بعيدا عن أية فضفضة لغوية أو تفسير زمخشري، يخرج النص من تعجيزيته الآسرة، النص هنا لا يشرح ولا يحيل إلى شيء واضح، بل يومئ أكثر ما يجلي، ولقد برع اليابانيون في التصوير الشعري كما لوحاتهم من خلال قصيدة الهايكو أو الهايكاي التصويرية، يقول في هذا الصدد شاعرهم الأكبر"باشو":« قصيدة الهايكو التي تكشف ما نسبته70٪ إلى ٪80 من موضوعها جيدة، أما تلك التي تكشف ما نسبته50٪إلى 60٪ من موضوعها فلا نملها أبدا.» (3)، تبقى هنا مسألة الاشتغال على محددات القصيدة دلاليا ولغويا وأسلوبيا وإيقاعيا حاضرة بالبساطة ذاتها والانزياح والخرق نفسيهما، وأنا هنا لست معنيا بالكتابة على غرار الهايكو، إذ لها شروطها الإيقاعية المعقدة، وضوابطها الموضوعاتية الموقوفة، بقدر ما يبهر فيها تصويرها البسيط للأشياء والمواقف، وقد أغنت فعلا القصيدة التصويرية بشكل عام؛ وليس هناك أدل على ذلك أحسن مما عبر عنه جابر عصفور حين قال:« إن الصورة هي الوسيط الأساسي الذي يستكشف به الشاعر تجربته ويتفهمها كي يمنحها المعنى والنظام، وليس ثمة ثنائية بين معنى وصورة، أو مجاز وحقيقة، أو رغبة في إقناع منطقي أو إمتاع شكلي. فالشاعر الأصيل يتوسل بالصورة ليعبر بها عن حالات لا يمكن أن نفهمها ونجسدها بدون الصورة». (4)
إن نص القصيدة التصويرية الصغيرة يجمع بين متناقضات جمة، خاطف ومكتنز، شفاف وعميق، بدهي ومعقد، قريب وناء...تجمعه العين في حيز بصري صغير لكنه يشتت البصيرة في مناح مترامية، إنه يحتاج إلى كاتب قناصة للقطات الأكثر سحرا، وإلى قارئ نجيب ذي ذائقة كاسرة، لا يألف الجاهز المبتذل، وإنما يفضي به التصوير الشعري المبأر إلى إدراك جمالية النص وحركة أبعاضه وهي تتململ على بياض الورقة، إضافة إلى فقاعيته واختزاليته بالشكل المباغت تماشيا مع روح العصر التي توثر الصورة أكثر من المكتوب، وتستلزم الاقتضاب والسرعة في عرض الصورة بوظيفتها الدلالية، كما الشأن في ميادين التواصل المرتبطة بخدمات التكنولوجية الرقمية والتي تعاف الإطالة والاسترسال والملحمية المرهقة للعين، لقد أضحت الصورة إمبراطور العصر، وغدا الإنسان عبدها، إننا اليوم نرى كثيرا من الشاعرية في التعامل مع الصورة المعروضة على أكثر من خطاب، سينمائي، إشهاري، إعلامي، سياسي...لقد قال بيكاسو لزوجته فرنسوا جيلو يوما ما:« إن التصوير هو شعر، شعر مكتوب في أبيات بإيقاعات تشكيلية..» (5)، وقال دافنشي أيضا:«التصوير هو الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر هو التصوير الذي يسمع ولا يرى» (6)؛ أعتقد أن بالكلمات القليلة المتنوعة الدلالات والمنتقاة بدفة قناصة سديد قد تمكن القارئ من حاجياته التذوقية الجمالية والوجدانية والوجودية، فقط لأننا في عالم الصورة والسرعة معا وشاشات الكريستال الصغيرة، والزمن الرقمي الحثيث، والخوف كل الخوف من أن تنمسخ حروف الأبجدية إلى صور، فلمنح لغتنا الشعرية مزيدا من التصوير، ألا يجدر بنا أن نقول كما فال سيمونيدس الكيوسي:« إن التصوير شعر صامت، والشعر تصوير ناطق» (7).
18-6-2008