موقفان لي مع الأبنودي لا أنساهما أبدا ما قدّر الله لي أن أحيا. أحدُهما في الثمانينيات الماضية وأنا بعدُ طالبةٌ بالفرقة الأولى بكلية الهندسة. والآخر قبل سنوات قليلة خلت. كانت اللجنةُ الثقافية بكلية الهندسة جامعة عين شمس قد دعت الأبنودي لإحياء أمسية شعرية استجابةً للطلاب. ولأنه جميلٌ فقد لبّى. ولا أنسى ابتسامته الرائقة ونحن نقاطعه ليعيد ونردد معه "جوابات حراجي القط" التي نحفظها عن ظهر قلب. صوتٌ عملاق قُوامه مئات الطلبة في نَفَس واحد يقولون:
"وانشالله يا حراجي ما يوريني فيك يوم/ وانشالله تكون تعلمت ترد قوام/ ومادام احنا راسيين ع العنوان/ والله ما حنبطل بعتان/ مفهوم../ أسوان/ زوجي الغالي/ لاوسطى حراجي القط / العامل في السد العالي "
ولأنه جميلٌ أيضا فقد رحّب بسماع "المواهب الشابة" من طلاب الكلية. كان ذلك في مدرج "فلسطين" المهيب الذي يحتلُّ مكانا بارزا في واجهة المبني العريق. وبالطبع لم أكن من بين المواهب الشابة. لكن أصدقاء أشرارًا ممن يعرفون عن محاولاتي الشعرية وشوا بي ودفعوني دفعا لألقي قصيدة على مسمع ومرأى من الأبنودي. وهو الحدث الجلل لو تعلمون! وكان الامتحانَ الأصعب والموقفَ الأرهب. على أنني بعد بعض تردد وكثير تلعثم ألقيتُ ما في جعبتي. وحين تقدمت لمصافحته مُطرقةً خجلى وجلى كان نثارُ كلمات مما يشبه الاعتذار يتدفق من شفتي. فما كان إلا أن احتضنني وقال بصوت عال بلكنته المصرية الجنوبية البديعة "انتي شاعرة يا بت، اوعاكي تسيبي الشعر!". وكانت شهادةً كبرى أمام ألف طالب على الأقل. صحيحٌ أنني لم آخذها إلا على محمل التشجيع مما يليق بشاعر كبير نحو صبية تحاول الشعر، وصحيحٌ أني لن أنشر حرفا إلا بعد هذه الواقعة التاريخية، بالنسبة لي، بعقدين كاملين، إلا أنني طوال هذين العقدين سأظل أحتفظ بتلك الشهادة في داخلي بوصفها تميمتي السرية. أُخرجها في خلوتي لأقوى كلما انهزمت، وأستحضرُها فوق طاولتي كلما راودني الشعرُ وحاولت الفرار منه تأدبا من أن ألوّث الورق كما يقول نزار قباني.
الموقف الثاني كان قبل سنوات في مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. كان الأبنودي يلقي قصيدة "يامنة". ولما حرصتُ على اقتناص مقعد في الصف الأول، تماما في مواجهة الشاعر، ولما كان إلقاؤه كالعادة بديعا وساحرا، ولما كانت ملامحه تقول الشعرَ مع صوته، ولما كانت القصيدة ماسّة جدا وحارقةً، فقد بكيت عندما قال:
"ولسه يامنة حاتعيش وحاتلبس/ لمّا جايب لي قطيفة وكستور؟/ كنت اديتهمني فلوس/ اشتري للركبه دهان./ آ..با..ي ما مجلّع قوي يا عبد الرحمان/ طب ده انا ليّا ستّ سنين مزروعة في ظهر الباب/ لم طلّوا علينا أحبة ولا أغراب./خليهم/ ينفعوا/ أعملهم أكفان.!/ كرمش وشي/ فاكر يامنة وفاكر الوش؟/إوعى تصدقها الدنيا../ غش ف غش! /مش كنت جميلة يا واد؟/ مش كنت وكنت/ وجَدَعَة تخاف مني الرجال؟/ لكن فين شفتوني؟/ كنتوا عيال!/ حاتيجي العيد الجاي؟/ واذا جيت/ حاتجيني لجاي؟/ وحتشرب مع يامنة الشاي؟/ حاجي يا عمة وجيت/ لا لقيت يامنة ولا البيت!".
بكيتُ. فما كان منه إلا إن انتزع منديلا ورقيا من فوق المنصّة وناولني قائلا بلكنته الجنوبية الفاتنة: والله يا عبدُ الرُحمان بكّيت "فاطنة" الحلوة!
عقدانِ بين هذين الحدثين الفاعلين في حياتي. وبين العقدين مئات من قراءة الأبندوي وكثير من دموع تغسل الروح كما التطهر الأرسطي. أيها الجميل يا مخبي في عينيك السحراوي تملي حاجات، كل سنة وأنت طيب يا راجل يا طيب. عُدْ إلينا سريعا لأننا نحتاج إليك!
الحياة
لندن- 20/4/08