في جوار المسجد الأقصى خلال زيارته القدس |
ما زال مسكوناً بالروح القلقة التي رافقته منذ الستينيات. نجده على كل الجبهات: التطرّف وتمكين المرأة والتعددية والحريات الفرديّة... وإنقاذ الذاكرة الثقافيّة المعاصرة. عشية اليوم العالمي للشعر، تحيّة إلى الشاعر المغربي الذي حلّ بالأمس القريب ضيفاً على الفلسطينيين في رام الله والقدس
المحارب القديم ما زال قادراً على تجديد أسلحته. عبد اللطيف اللعبي (1942)، الشاعر المغربي بالفرنسية والمناضل الماركسي اللينيني الذي قضى الفترة من 1972 حتى 1980 في سجون الحسن الثاني غيَّر الكثير من قناعاته وأولوياته. لكنّه ما زال محافظاً على الروح المتوثبة القلقة التي بدأ بها منذ أواخر الستينيات مساره السياسي والشعري. لم تزهر شجرة الحديد في بلاد المغرب الأقصى، خلافاً لما حلم به الشاعر في ديوانه الأول «وأزهرت شجرة الحديد» (1974). لكنّ «مجنون الأمل» الذي حرّك مياه المشهد الشعري المغربي الراكدة عام 1972 بمجلته الرائدة «أنفاس»، ما زال يحلم بالحريّة، ويعمل من أجلها... وينتظر أن يرى زهرة الحياة تطلع فوق الأغلال الحديدية التي تكبّل منّا الوجدان والأذهان.
المحارب القديم صار اليوم شاعراً أكثر ممّا كان. الهوية شاعر. والمهنة شاعر. شاعر بالأساس. شاعر جداً. لكنّه لا يستغني بقصيدته عن العالم، ولا يذهله سحر اللغة عن روح الإنسان. لذا، فهو دائم الارتياب من أوهام الشعراء: «لديَّ تحفّظ بخصوص موضوع تفجير اللغة. وأفضّل توسيع مجال التعبير، وأبذل جهداً لأقترب أكثر من الأحاسيس الدقيقة للإنسان. فالمبدع هو الذي يخلق الحياة في اللغة. أما المعاجم والقواميس، فليست في النهاية أكثر من مقابر. والشاعر هو الذي يزرع الحياة في هذه المقابر. هذه بالضبط وظيفته». أما الهوية التي عاش اللعبي دوماً قلقها في الكتابة والحياة، هو المغربي العربي الذي يكتب بالفرنسية، فقد هرَّبها من جحيم السجال والتنابز إلى فردوس الشعر. ومع ذلك، فـ «ليست هناك هوية خالصة. الهوية الصافية ليست أكثر من فكرة فاشيّة تدفع إلى مجموعة من الانزلاقات كالعنف والتعصب وإلغاء الآخر»، هكذا تكلّم صاحب «تجاعيد الأسد».
ولأنّ القصيدة كانت دوماً خيمة اللعبي الأثيرة، ففيها سيطلق صرخاته القوية ضدّ الاستبداد السياسي خلال سنوات الرصاص في بلاده المغرب: من «مملكة البربرية» (1980)، و«قصة مصلوبي الأمل السبعة» (1980) إلى «خطاب فوق الهضبة العربية» (1985). وعندما تعرضت مدريد عام 2004 لتفجيرات إرهابية اتُّهم متطرفون مغاربة بالضلوع فيها، لم يتردّد اللعبي في الاعتذار لأهالي الضحايا ـ بصفته مواطناً مغربياً ـ في قصيدة طويلة بعنوان «صفحكم يا أهل مدريد». حتى عندما أصدر في باريس أول انطولوجيا للشعر المغربي باللغة الفرنسية بعنوان «انطولوجيا الشعر المغربي من الاستقلال إلى اليوم» (2005 ـ منشورات La Différence)، اكتشف الجميع أنّ مزاج الشاعر وذائقته الشخصية لم يحتكرا المهمة، فالمناضل الديموقراطي كان هنا أيضاً، حاضراً بقوّة! وهذا الأخير ـ أي المناضل الديموقراطي في أعماق اللعبي ـ غافل الشاعر ليراعي مبدأ الكوتا (نظام الحصص)، ضامناً في الأنطولوجيا نوعاً من الحضور المتوازن للغات القصيدة المغربية (العربية الفصحى، الفرنسية، الأمازيغية، والمغربية الدارجة). بل ذهب أبعد من ذلك: إذ مارس ما يطلق عليه «التمييز الإيجابي» لصالح الشعر المؤنث، ما ضمن له تكريس حضور نسائي متألق لشاعرات المغرب في هذه الأنطولوجيا.
شعلة القلق المتوقّدة هذه التي نسمّيها في المغرب عبد اللطيف اللعبي لا ترسو على برّ، ولا تطمئن لمشروع. «على قلق كأن الريح تحتي» يردّد مجنون الأمل مع المتنبي. لهذا لم يعد يحدث شيء في المغرب، إلّا وننتظر ماذا سيقول اللعبي، وكيف سيكون ردّ فعله. مبادراته تكاد تفوق تحرّكات «اتحاد الكتّاب» مجتمعةً... يُذكّرنا يومياً بأن المثقف مواطن أيضاً. ودوره لا يقتصر على الإنتاج الإبداعي والرمزي فقط، بل على «كتلة المثقفين الانخراط في فعل جماعي لدعم المشروع المجتمعي الحداثي». لهذا، عندما كان المغرب على موعد مع الانتخابات التشريعية في أيلول (سبتمبر) الماضي، أصدر اللعبي بياناً يدعو فيه المثقفين إلى تشكيل جبهة ضد الظلامية، وإلى الانخراط في معركة الدفاع عن قيم الحداثة وتوسيع الهامش الديموقراطي.
وعندما تعرضت مجلة «نيشان» للمنع والمحاكمة بعدما نشرت نكاتاً عن السياسة والدين والجنس، أصدر اللعبي بياناً ندّد فيه بـ «الحقيقة الحزينة» التي تريد أن «تظل الفكاهة حبيسة المجال الخاص»، مؤكداً على أنّ «المجتمع الذي لا يضحك من نفسه آيل بالضرورة إلى الانزلاق نحو التطرف». وعندما اعتُقل مواطنون في مدينة القصر الكبير قبل فترة على خلفية حفلة أقاموها واتهموا بأنهم مارسوا خلالها «الشذوذ الجنسي»، أطلق اللعبي «نداءً للدفاع عن الحريات الفردية»، وقّعه إلى جانبه مئة مثقف طالبوا فيه الدولة المغربية بـ«حماية الحريات الفردية وتجريم دعوات التحريض على العنف ضد الأفراد بسبب معتقداتهم أو اختياراتهم الشخصية».
لكنّ معركة اللعبي الأهم يخوضها ضد النسيان من أجل معهد للذاكرة المعاصرة في المغرب. فروّاد الأدب والفن المغربي المعاصر بدأوا يرحلون تباعاً، تاركين مخطوطاتهم وأرشيفهم الشخصي عرضةً للإهمال. يكفي أن نذكر محمد عزيز الحبابي، وعبد الله راجع، ومحمد الركاب، ومحمد زفزاف... مروراً بمحمد القاسمي، ووصولاً إلى محمد شكري وإدريس الشرايبي... ذاكرة ثقافية تتبدّد أمام أعيننا من دون أن نفعل شيئاً. لهذا، اختار اللعبي أن يقود أشرس معاركه في هذا المعترك بالضبط، مطالباً بإنشاء معهد للذاكرة. وفي السياق نفسه، يقود معركة أخرى لإدراج الأدب المغربي بلغتيه، العربية والفرنسية، في المناهج الدراسية، «كي يتمكن أبناؤنا من اكتشاف أسئلة الإنسانيّة وحقائقها، من خلال عبر مخيّلة قريبة
منهم».
القضايا التي يناضل من أجلها عبد اللطيف اللعبي تتجدد باستمرار. وقرينه «النزق الذي يعرف كيف يلهو بخجله» ـ وهو خصص له ديواناً كاملاً بعنوان «قريني العزيز» (صدر أخيراً عن «دار لاديفيرانس») ـ يمعن في التنكيل به، ليفتح شخصية اللعبي، الشاعر والإنسان، على المزيد من التعقيد: «أحياناً/ أجده جالساً مكاني/ ولا أجرؤ على أن أطلب منه/ النهوض». قرين «يزعم أنه أرجنتيني/ فيما لم أعتبر نفسي قط فرنسياً/ مع أنه مغربي حتى النخاع». هل هي شيزوفرينيا، تلك التي تلبّست مجنون الأمل؟ يجيب عبد اللطيف اللعبي: «ربما عليَّ أن أعترف بأنني، إلى حد ما، سكيزوفريني سعيد».
لكنّ سر سعادة اللعبي هو مصالحته العميقة مع ذاته. قد نختلف مع اختياراته ومبادراته وبعض أفكاره وآرائه. لكنّ الجميع، في المغرب على الأقل، يقدّرون الصدق الكبير والنبل الإنساني العميق الذي يحرّك مبادرات هذا المثقّف ومواقفه. أما بالنسبة إليه، فكل شيء محسوم: «سأبقى دائماً أطرح قناعاتي في أي قضية من القضايا السياسية والثقافية من داخل الهامش الذي أعيش فيه. لم انخرط لا في الدولة ولا في الأحزاب. بقيت في الهامش الخصب. وربما يكون هذا الهامش هو المركز. لأنه مجال الحرية، والحرية هي مركز القيم».
ولد عبد اللطيف اللعبي في فاس عام 1942، نشر بالفرنسية 30 كتاباً بين الشعر والرواية والمسرحية والنقد ومجموعة من الترجمات إلى الفرنسية مثل «أنطولوجيا شعر المقاومة الفلسطينية»، و«أنطولوجيا الشعر المغربي الحديث»... وما زال يجد متعة في نقل أعمال يحبّها إلى الفرنسية، معتبراً أن الاهتمام بإنتاج الآخرين هو تغلّب على نرجسية الشاعر، ومطبات الانغلاق على الذات.
أسس عام 1966 مجلة «أنفاس» وقضى ثماني سنوات (1972-1980) سجيناً في المغرب بسبب نشاطه الفكري والسياسي. يعيش اللعبي في باريس منذ 1985. وفي التسعينيات، صار يتردّد على المغرب بعد عقد من المنفى. يُعدّ اللعبي اليوم من أبرز الشعراء الفرنكوفونيين في العالم العربي وخارجه، وقد حاز عام 2006 جائزة «الآن بوسكيه» عن مجمل أعماله. عضو في «أكاديمية مالارميه»، وأعماله مترجمة إلى لغات عدّة من بينها العربية. يصف الكتابة بأنها عملية تحرير دائم لوصية غير مادية.
*****
ليس مألوفاً أن تلتقي شاعراً عربياً في القدس. حتى معظم الشعراء الفلسطينيين لا يستطيعون وصولها اليوم. أما أن تجول بصحبة شاعر عربي تحبّه، من المقلب الآخر من الوطن الكبير، في طرقات القدس العتيقة، فالأمر يشبه حلماً. إنّها المرة الأولى التي تلتقي فيها شاعراً عربياً في القدس، أنت ابن جيل لم يعرف المدينة إلّا محتلةً ومعزولة. وعبد اللطيف اللعبي كان أيضاً أول شاعر عربي أراه في فلسطين عام 1994، في مؤتمر دولي للكتاب أقامه «اتحاد الكتاب الفلسطينيين» في جامعة بيرزيت. وقتها، كان اللعبي يتفحّص الواقع الفلسطيني بعد «أوسلو»، ولا يفوّت فرصة للإنصات إلى شبان وشابات في قلب فلسطين، والتحاور مع هؤلاء الذين كثيراً ما مثّلت قضيتهم جزءاً من ميثولوجيته الخاصة كاتباً وإنساناً.
وها هو يعود في زيارة ثانية إلى الأرض المحتلّة، قبل أسبوعين، بدعوة من المركز الثقافي الفرنسي لإقامة أمسيات شعرية في القدس ورام الله وبيت لحم ونابلس، في مناسبة «ربيع الشعراء». لكنّ هاجسه الأساسي وراء الزيارة، هو تقصّي السؤال الفلسطيني، وتقليب جمره في واقع رمادي على شفا الهاويات جميعها. في السبعينيات والثمانينيات ـ كما يقول اللعبي ـ كانت الأمور واضحة بالنسبة إلينا، في ما هو مطلوب من المثقف العربي المنخرط في الدفاع عن القضية الفلسطينية، وخصوصاً على جبهة النضال الفكري والثقافي. أما الّآن، فلا شيء واضحاً. وهو يرى أنّ انقطاعاً حدث مع المثقفين الفلسطينيين بعد اجتياح عام 2000، لذا يفتقد أصواتاً فلسطينية تعيد صياغة وتقديم أسئلة القضيّة الفلسطينية، وتعيد وصلها مع العالم ثقافياً.
من مفارقات زمن الاحتلال أنّ القدس منذ أربعة عقود أرض محرّمة على العرب: فمن جهة، يمنع الاحتلال العرب من وصولها، ومن الجهة الأخرى تبدو فكرة رفض زيارة القدس وفلسطين عموماً وهي تحت الاحتلال فكرة راسخة عربياً. ولعل الموقف المصري ـ وخصوصاً موقف المثقفين ـ يقف في طليعة المواقف العربيّة في هذا الشأن. ويبدو أنّ ما سمّي «زيارة السادات للقدس»، وعقده «صلحاً» منفرداً مع إسرائيل وقتها، جعل لجملة «زيارة القدس» وقعاً مريباً في المخيّلة العربية... لم يتلاشَ حتى اليوم. لكنّ اللعبي لا يبدو معنياً بهذا السجال، فهو غير مؤمن بهذا المنطق من أساسه... ومن جهة أخرى، يبدو أنّ للساحة المغربية موقفاً مختلفاً من الأمر.
هذه المرة جاء اللعبي بصحبة رفيقة دربه جوسلين، المرأة التي حرّكت العالم أثناء اعتقاله في سجون الحسن الثاني حيث قضى ثماني سنوات. يومها تحرّكت حملة عالمية تطالب بإطلاق سراح الشاعر ورفاقه من المعتقلين السياسيين. وقد أطلق الثنائي على ابنتهما اسم «قدس» بعد سقوط المدينة. كتب عبد اللطيف إلى جوسلين من سجنه قبل ثلاثة عقود ونصف: «إمرأتي الحبيبة/ يدعونا الفجر للحضور/ يتواصل الصراع/ ويتفتح الحب/ وردة في حلبة العصيان/ يدي ترتعش/ كأني أرغب في بتر عضو من أعضائي/ لأرفعه قرباناً لك/ هذه اليد المنتصبة بالذات لتمحو وصمة العار/ نعم لأجلك أرفعها/ في غبطة العصيان». وجوسلين هي أيضاً مترجمة «البئر الأولى» سيرة طفولة الكاتب جبرا إبراهيم جبرا في بيت لحم، وصباه في القدس. وها هي تسير لأول مرة على أرض الصفحات التي ترجمتها. تبدو جوسلين محوراً أساسياً في حياة اللعبي وشعره ومعظم كتاباته: «طحلبكِ/ يتعرّف على شجرتي/ شجرتي/ تضيع في غابتك/ غابتك ترتفع في سمائي/ سمائي تعيد إليكِ نجومكِ/ نجومك تسقط في بحري/ بحري يهدهد زورقكِ/ زورقكِ يرسو على شاطئي/ شاطئي هو بلادكِ/ بلادك تبهرني/ فأنسى بلادي».
قوبل اللعبي بحفاوة بدت جليّة في الأمسيات التي أقيمت له. فالرجل يبدو معروفاً من خلال سيرته النضالية، كما أنّ «صورته» كسجين سياسي تبدو راسخة هنا. وقد حدث أن حضر أمسياته الشعرية بعض مَن تظاهروا في حملات إطلاق سراحه أيام كانوا طلاباً في باريس والقاهرة. بعضهم بحث عن صورة السجين، لكنه لم يجدها. فالرجل في ما يبدو صفّى حساباته مع تلك السنوات في كتبه، ويبدو اليوم إنساناً آخر لم يسمح للأسطورة بأن تسجنه. «الكتب التي تحمل اسمي لا أجرؤ على فتحها/ حتى لا تستحيل غباراً بين أصابعي». وعليه تصعب المطابقة بين كاتب الصفحات المؤلمة عن التعذيب في «مجنون الأمل»، وبين الرجل المرح وصاحب حسّ الدعابة الدائم وصائد المفارقات.
بكلمات مقتضبة، استمعنا إلى اللعبي يردّ على كلمات المديح الطنان، والإنشاء الغنائي التي كالها مقدّمو أمسياته. وفي النقاش، بدا مخلصاً وحاداً وهو يجهر بأفكاره كما هي حتى وإن صدمت محاوريه... ولم يتصرف كضيف ولم يجامل. كان يسير في غبطة عصيانه على نار هادئة لعلها أساساً نار الحب وإيمانه بالإنسان الذي يبدو محور كل تجربته، منذ قصائده الحمراء أيام الشيوعية، في «وأزهرت شجرة الحديد» حتى تغنّيه الحسّي بـ «فواكه الجسد»... حياته التي لا يمكن فصلها عن كتابته، فهو يضع ذاته كلّها في ما يكتب. وهو من الذين تجعلنا قراءتهم أقرب إلى إنسانيتنا، والمعنى اللانهائي للحرية. وهذا بالتحديد هو الأثر العميق الذي تركه لدى كلّ من سمعه في فلسطين.
يعود الشاعر إلى بلاده التي ما انفكّ يبتكرها... تاركاً الاحتلال يثرثر فوق بقايا بلادنا: «الشمس تُحتضر/ على ثغرها اختلاجة بشرية».
الأخبار- الخميس ٢٠ آذار ٢٠٠٨