بدأت معرفتي به قبل أن تصدر له أول مجموعة قصصية في العام 1970 بعنوان (ذكري الأيام الماضية)، وتوطدت علاقتنا مع مرور الأيام، وتابعت كل ما صدر له من روايات ومجموعات قصصية بحكم الصداقة والزمالة، وطبيعة المهنة وميلي الخاص إلي قراءة الأدب. مع ذلك لم أجد نفسي راغبا في الكتابة عن أي من أعمال رشاد أبو شاور إلا مرة واحدة، ولكني أيضا لم أفعل. كان ذلك عندما صدرت له رواية (العشاق) في العام 1977 عن دائرة الإعلام والثقافة الفلسطينية، والتي أعتبرها أحد أهم الأعمال في الأدب الفلسطيني لفترة ما بعد النكبة، وذلك لأنني لست ناقدا أدبيا من ناحية، ولأنني، من ناحية ثانية، أحب أن أظل بعيدا عن اتهام طالما سمعته يوجه للبعض، ويتصل بقاعدة منتشرة في أوساطنا الثقافية، أعني بها قاعدة شيلني لشيلك ! وظل ذلك ساريا حتي قبل أسابيع قليلة، حين وقعت تحت يدي وبالصدفة المجموعة القصصية المعنونة (الموت غناء) الصادرة في العام 2003 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، والتي لم أكن قد رأيتها أو سمعت عنها، كما أن رشاد لم يقدمها لي، كما يفعل في كثير من الحالات. بعد أن قرأتها أحسست برغبة قوية في الكتابة عنها، خلافا للقاعدة العامة التي أتمسك بها. أما لماذا، فلسبب بسيط جدا، هو أنها كشفت لي ما أسميه الوجه الآخر الذي لم أعرفه لرشاد أبو شاور بالرغم من صداقة اقترب عمرها من أربعة عقود!
تضم مجموعة (الموت غناء) أربعا وعشرين قصة قصيرة، تتحدث كلها عن الإنسان البسيط الفقير المقهور وما يعانيه ويواجهه في عالم تسود فيه القوة بمعناها الواسع، ويستشري فيه الخوف والتسلط والفساد. لكن نصف هذه القصص علي الأقل تدور أحداثها بشكل أو بآخر حول (الموت)، ليس فقط كمصير محتوم للإنسان يأتي في نهاية العمر، بل كـ واقعة تراجيدية تعايشه العمر كله، قبل أن يصل إلي النهاية المحتومة. الموت مأزق وجودي بالنسبة للإنسان منذ وجد الإنسان، وطالما توقف أمامه الأدباء والفنانون والفلاسفة إلي جانب الأديان، ودائما وجد الإنسان نفسه عاجزا في مواجهته. ولعل كل ما يفعله الإنسان في حياته، وتحت أي عنوان كان، لا يزيد عن كونه محاولة فاشلة للابتعاد عن التفكير في هذا المأزق، وتلهيا عن واقعة الموت التي لا مفر منها. وفي هذه القصص جميعا، يعايش شخوصها الموت بطريقة أو أخري في خط مواز لكل ما يفعلون. تراه يعشش في حيواتهم ويلونها ألوانا شتي، يدفعهم للدفاع مرة وللهجوم أخري دون جدوي، يتربص بهم في كل حركة من حركاتهم وكل سكنة من سكناتهم، حتي عندما ينامون! هذا ما يقوله بطريقته رشاد أبو شاور.
ذلك هو الوجه الآخر لرشاد أبو شاور. من يعرف رشاد من الخارج، يجده إنسانا ضحوكا دائم الابتسام، مرحا يحب النكتة فتسير علي لسانه دون عناء، صاحب بديهة حاضرة تلعب علي الأفكار والألفاظ تستخرج منها النكتة بمناسبة وبدونها بحيث يبدو له أنه لا يعير اهتماما إلا للحياة وبوصفها مساحة للنزال. لكنه من الداخل وفي العمق، وكما تبدي لي في قصص هذه المجموعة، إنسان حزين غارق في حزنه حتي الثمالة، وهو ما يفسر لي لماذا تأتي النكته علي لسانه، في حالات كثيرة، أقرب إلي السخرية شديدة المرارة، ونوعا من الكوميديا السوداء، حتي في أكثر حالاته فرحا. فرشاد يقلقه جدا، بل يخيفه ويحيره الموت الذي لا يجد له تفسيرا، رغم ما هو عليه من إيمان. ولهذا أري أنه كان منطقيا وطبيعيا جدا، بل أكاد أقول حتميا، أن تحمل هذه المجموعة القصصية عنوان الموت غناء ، وكأنه يريد أن يقول إن الموت موجود في أصل الفرح الذي هو لحظة عابرة في حياة الإنسان، وربما أراد القول: حتي الغناء هو شكل من أشكال الموت!
أولا: في التكنيك
علي غلاف المجموعة، كتب المؤلف: دائما كنت علي قناعة بأن القصة القصيرة فن ممتع يلتقط التفاصيل ويتعامل مع الزمن والنفس الإنسانية، في لحظة حاسمة، وأنها فن الحكاية المركزة والمقطرة... . هذه القناعة لدي رشاد أبو شاور عن القصة القصيرة تسود تماما بحرفيتها في قصص الموت غناء ، حيث نجد الحكاية دائما، وحيث يتحكم السرد بشكل القصة، فدائما هناك الراوي الذي يروي الحكاية. أما التفاصيل ، بل وتفاصيل التفاصيل، فهي ما تتركز عليه عينا المؤلف لينسج منها ما يسميه اللحظة الحاسمة التي تكشف عن نفسها بعفوية أحيانا، وبطريقة مرسومة أحيانا أخري، لترسم تداعيات تلك اللحظة علي النفس الإنسانية التي هي دائما، مرة أخري، موضوع قصص رشاد أبو شاور، حتي عندما يبدو أن تلك القصص لها هدف آخر غير تلك النفس.
يفتتح رشاد أبو شاور مجموعته بقصة يا دنيا ... ولم يكن ذلك اعتباطا، بل علي الأرجح أنها كانت افتتاحية مقصودة تكشف عن مكنونات نفسه، وما يعتمل فيها من خوف وحيرة، وربما عبثية! القصة رمزية بامتياز، حيث لم تستطع كل المعطيات و التفاصيل الواقعية أن تغطي علي رمزيتها الواضحة. تعرض القصة لحظة البداية لدخول رجل غريب إلي مدينة حيث تقع عيناه فيها علي امرأة فاتنة، يتبعها ليجد نفسه في نهاية المطاف وحيدا في صحراء قاحلة متعبا ومرهقا ويائسا. فالمدينة ترمز إلي حياة الإنسان في هذا العالم، لها بابان (الولادة والموت)، يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر. وتتم المقايسة بين الدنيا والمرأة الفاتنة اللعوب، وما تمثله وما تنطوي عليه من خداع للإنسان. وفيها نجد رأي أبو شاور بالدنيا، رأياً هو أقرب إلي الصورة المتكونة عنه، وهو أنه لا يجب علي الإنسان أن يأخذها علي محمل الجد، حيث جاء علي لسان أحد شخصيات القصة وهو يصف الغريب الذي صدق أن المرأة عشقته، قوله: يبدو أنه غشيم، لقد أخذها المسكين جدا !
ثانيا: انشغالات أخري
إذا كان الموت هو بطل مجموعة الموت غناء ، فإنها تحمل أيضا بعض ما يشغل رشاد أبو شاور في هذه الدنيا، فهناك قضايا لم يسلب الموت أهميتها طالما فرضت الحياة علي الإنسان، أعطاها المؤلف حيزا كبيرا من المساحة المخصصة، وإن لم تغب صورة الموت عنها، بل يمكن القول إن هذه القضايا عكست صورا أخري للموت. أول هذه القضايا قضية الحرية المسلوبة في بلداننا العربية، كما عرضتها قصص: شارع الحرية ، فنجان قهوة فقط ، مكان نظيف حسن الإضاءة ، حكاية الضابط والمعلم و الموت غناء . في كل هذه القصص رصد تفصيلي مثابر لمشكلة تبدو في أساس كل مشاكل حياتنا العربية، وقد لجأ أبو شاور إلي تنويعة من المفارقات والحيل جعلت السخرية المرة، التي سبق وأشرت إليها، هي الجو السائد في هذه القصص. فقصة شارع الحرية تتحدث عن غريب يبحث عن عنوان شركة قيل في الإعلان عنها إنها تقع في شارع الحرية . وعندما يسأل عن الشارع لا يجد أحدا يعرفه، فيضطر لأن يسأل شرطيا عنه، فينتهي به الأمر إلي السجن! أما فنجان قهوة فقط ، فتحكي عن سياسي قديم دعته المخابرات للتحقيق معه لتتركه بعد ساعات، يعود إلي بيته ويجلس علي كرسي ليرتاح، لتكتشف زوجته بعد لحظات أنه مات! وتعرض مكان نظيف حسن الإضاءة لصحفي ينتهي إلي السجن لأنه طالب بحق المواطن في بيت نظيف حسن الإضاءة! لكن الموت غناء صورة ساطعة للقوة والتسلط والفساد، حيث تتحكم الأقانيم الثلاثة بمصائر الكثرة من البشر، وقد استطاع الكاتب أن يجعل منها مأساة فيها من الضحك ما يدفع علي البكاء، حيث يفرض علي المغني أن يغني حتي الموت!
ثالثا: إنسانيات
الجزء الثالث من قصص المجموعة كانت عبارة عن لقطات إنسانية تكشف عن جانب مهم من إنسانية الكاتب، كما في قصة نصف رغيف ناشف ، التي تتحدث عن طالب فقير يحاول مداراة فقره عن العيون. وكذلك قصة حياة موحشة ، التي تظهر ما يمكن للحب أن يشيعه من حيوية في حياة الإنسان، وما يمكن أن يخلقه من أمل في نفس الإنسان وسط ظروفه الشقية.
بالطبع لم يكن ممكنا، ولم يكن الغرض عرض، أو التوقف عند، قصص المجموعة بالتفصيل الذي تستحق، بل هي مجرد إشارات إلي بعضها لتوضيح رأي صادر عن قارئ، إذ ليس من طريقة للاستمتاع بقصص هذه المجموعة غير قراءتها، وهو ما أرجو أن أكون في هذه العجالة قد أثرت اهتمام القراء وفضولهم، ممن لم يقرأوها، لقراءتها.
القدس العربي
23/05/2008