ألبير قصيري: “روائي مصري يكتب باللغة الفرنسية، ولد في القاهرة العام ,1913 مولع بوصف عالم الهامشيين المصريين، امتنع عن الكفاح من أجل التلذذ بالكسل والمخدرات”. هذا هو “العلاج” الذي خصّ به “قاموس الفرنكوفونية العام” (لوتوزييه وإينيه، باريس 1986) الكاتب. ربما بدءاً من اليوم، علينا أن نقفل هذين الهلالين، إذ غادر الكاتب صباح أمس، وهو في فندقه الباريسي الذي سكنه لعقود، بسبب المرض وبعد أن كان قد أجرى عملية، منذ سنوات، لاستئصال سرطان الحجرة. ومع هذه النبذة التي نجدها في قاموس الفرنكوفونية، لا بد أن نطرح سؤالاً سريعاً: هل كان ذلك علاجاً ذا نعمة؟ وبخاصة أن القواميس المماثلة، اختارت تجاهله بشكل عام. ومن هنا، لنضيف سؤالاً ثانياً: هل توصيف عالم الهامشيين يجعل منا كتّاباً هامشيين؟
كل شيء يبدو وكأن ألبير قصيري الشبيه بشخصياته قد عاش في منطقة أدبية أشبه بالمناطق المحايدة، إذ تناسى كلّ شيء، كما أن كلّ شيء قد تناساه. فعمله الأدبي، ليس سوى صنو لذلك كله، مثلما يشير أحد عناوين كتبه “بشر نسيهم الله”. فقصيري هو ذلك المنسي الكبير، أو مثلما وُصف ذات يوم بأنه “روائي نسيه الله” (الذي عاد وتذكره أمس). لقد أراد أن يُنسى في ضباب هذا العالم ليقود نفسه وحده.
سيرة
ولد ألبير قصيري في القاهرة في 3 تشرين الثاني من العام ,1913 من أبوين مصريين، ميسورين. هذا اليسر سمح له بالعيش الرغيد. فوالده كان ملاكاً عقارياً، لذلك لم يعمل طيلة حياته. كذلك جده. فبحسب قصيري: “حين نملك، في الشرق ما يكفي لنعيش منه، لا نعود نعمل، بخلاف أوروبا، إذ حين نملك الملايين، نستمر في العمل كي نكسب زيادة”.
تردد منذ طفولته على المدارس الفرنسية “مدرسة الأخوة دو لا سال”، في حين تلقى أشقاؤه علومهم عند اليسوعيين. من هنا، جاءته اللغة الفرنسية بشكل طبيعي. فدراسته كانت بالفرنسية في تلك الحقبة. يقول قصيري: “كان الذكاء هو الأدب والفلسفة”، فبدأ يقرأ الكتب التي قرأها إخوته، لأنها كانت في متناول يده. لذلك لم يتعرف على كتب الأطفال، بل بدأ يقرأ روايات كبار الكتاب. أما علاقته بالكتابة، فبدأت يوم كان في العاشرة من عمره، إذ كان يذهب مع والدته إلى السينما، ليترجم لها بعض الأفلام التي كانت تعرض على شاشات القاهرة. وحين كان يعود إلى المنزل، يبدأ بكتابة أقاصيصه انطلاقاً من الفيلم الذي شاهده.
حين زار فرنسا للمرة الأولى قبل الحرب، كان في السابعة عشرة من عمره. يومها، كان قد نشر بعض القصص بالفرنسية في بعض مجلات القاهرة آنذاك. عمل بحاراً في إحدى البواخر التجارية التي تعمل على خط المحيط الأطلنطي، فاستطاع بذلك أن يزور مدناً عدة، بيد أنه قرر بعد الحرب العالمية الثانية أن يعيش في فرنسا، ليكرس وقته للأدب. فبالنسبة إليه “من الأفضل للكاتب الذي يكتب بالفرنسية، أن يعيش في فرنسا، لأسباب عديدة”، فاختار في العام ,1945 غرفة في فندق “لا لويزيان” في شارع “السين” وبقي فيها حتى وفاته. لم يغادرها قط إلى منزل أو إلى غرفة أخرى. زد على ذلك أنه عاش الحياة نفسها المتمثلة في قراءة الكتب والكتابة، والنزهات اليومية في حي “سان جرمان دي بريه”. لم يُغير أي شيء في نفسه، طيلة تلك السنين، لكن الحيّ الذي عاش فيه، تبدل كثيراً لدرجة أنه لم يعد يعرفه. صحيح أن مقهى “الفلور”، حيث كان يجلس كل يوم، لا يزال مكانه، إلا أن وجوهه تغيّرت. يقول في إحدى مقابلاته الصحافية “أنظروا حولكم، لا أعرف أحداً من الموجودين... في ما مضى، كنت أجد هنا، جميع أصدقائي، أنتظر صدور كتبهم”... كان تبدل السان جرمان يشير إلى أنها أصبحت مكاناً من “واجهة للذكريات” فكتابها “إما رحلوا إلى الريف وإما ماتوا”. لذلك لم يعد باستطاعته سوى تذكر أصدقائه الراحلين لعل أبرزهم جان جينيه، من هنا تحول في سنيه الأخيرة إلى أن يرثي “القحط” التي أصبحت عليه الحياة الثقافية. يقول في مقابلة معه: “باريس اليوم، لم تعد باريس التي عرفتها، أصبحت متأمركة. فلو كانت هكذا يوم جئت إليها، لرحلت فوراً. أبقى فيها اليوم، لأنه بالنسبة إلى رجل في مثل عمري، لا يعود يهتم بما إذا كانت تعجبه أم لا، إذ لم أعد أنتظر شيئاً. في أي حال، إن باريس التي أعيش فيها اليوم، لا علاقة لها بباريس التي عرفتها، كل مساء وحتى الصباح، في هذا الحي، عرفت المونبارناس قبل الحرب، والسان جرمان بعدها. عرفت أجمل فترتين في باريس. لذلك لا أندم على شيء. في أي حال، كما تعرفون، نحب بلداً ما بسبب مثقفيه. فرنسا بالنسبة إليّ هي ستاندال، هي لوي فرديناند سيلين. إنهما أعظم كاتبين في هذا البلد”. ويضيف: “حين وصلت إلى هنا، كان هناك عشرة أو خمسة عشرة كاتباً كبيراً في فرنسا. ربما كان جان جينيه آخرهم أو ربما جوليان غراك. في تلك الفترة، كنت أنتظر كتاب كاتب ما بنفاد الصبر. كنت أشتريه يوم صدوره”.
إذا ما كان قصيري يذكر جينيه، فهناك أيضاً عنصر مشترك معه. فالاثنان لم يسكنا سوى الفنادق، بيد أن جينيه كان يبدل فندقه في أغلب الأحيان، بينما بقي قصيري في الغرفة عينها. وهو لم ينتقل إلى منزل خاص، فلأنه لا يريد أي شيء خاص به. إنه يرتعب من فكرة امتلاك شيء ما. لقد عرف العديد من الفنانين والنحاتين الذين أهدوه العديد من أعمالهم، وكانوا يعرفون أنه كان يبيعها في اليوم التالي، لأنه لا يحب الاحتفاظ بأي شيء. بمعنى آخر، ألم يجد قصيري جذوراً ما هناك؟ بالأحرى، لم يبحث عن تجذر في فرنسا، إذ لغاية لحظاته الأخيرة، بقي يهرب من المجتمع مخلفاً الجميع وراءه، على الرغم من الاهتمام المتزايد في العالم بالأدب الفرنكوفوني، الذي جعل من قصيري، في السنين الأخيرة، أحد أبطاله الكبار وبخاصة بعد منحه الجائزة الكبرى للفرنكوفونية العام .1990 لكن الكاتب، مرة أخرى، أعاد البضاعة إلى البائع، إذ لم يهتم بالأمر ليؤكد شعبيته. لم يظهر على شاشة التلفزيون مطلقاً. غالباً ما رفض إجراء المقابلات الصحافية. كان يقول: “طموحي الوحيد أن تبقى كتبي متوفرة في الأسواق”. لقد تحقق هذا الطموح مع إعادة طبع رواياته عند الناشرة “جويل لوسفيلد” بدءاً من العام .1993 هذه الروايات (التي ترجم بعضها إلى العربية محمود قاسم وصدرت في القاهرة) تتيح لنا اكتشاف هذا الكاتب حتى أطراف أصابعه. روائي موسوم، بشدة، بمصر مسقط رأسه بالرغم من أنه عاش بعيداً عنها لفترة طويلة. ليس في الأمر أي تناقض، إذ إن الكاتب كان يعود إلى مدينته، بين الحين والآخر. لا يزال بعض أقاربه هناك، من أولاد أخ، وأخت وأولادهما. أما من عائلته الأساسية فلم يتبق منها أحد.
من هنا كان قصيري يشعر بأنه شخص مصري، له بلد. فهو لم يأت إلى فرنسا ليحصل على عمل أو جنسية، بحسب قوله. بل جاء ليدرس. لكنه لم يفعل شيئاً سوى القراءة والكتابة. فأنا “كاتب فرنسي”.
الفرادة الأسلوبية
بيد أن ما يميزه عن الكتاب الفرنسيين هو فرادة أسلوبه كما فرادة موضوعاته. فلكي يحيل الواقع المصري كما هو عليه، كان مضطراً لأن يعمل على “إبداع” لغة روائية جديدة “إذ لا أستطيع استعمال تعابير فرنسية صافية. هنا جوهر عملي. أكتب بالفرنسية، بيد أن المناخ ونفسية الشخصية، مصرية” حين “تقرؤونني لا تشعرون أبداً بأنني فرنسي أكتب عن مصر”.
بدأت الكتابة عن مصر في الأربعينيات حين نشر مجموعته القصصية الأولى “بشر نسيهم الله”، التي تشكل لوحة مؤثرة ورائعة عن “المصريين الحديثين”. أقاصيص المجموعة كانت موزعة في بعض المجلات المصرية الناطقة بالفرنسية، نشرت في كتاب وترجمت في الوقت عينه إلى العربية والإنكليزية. من هنا سبب شهرته في الولايات المتحدة، إذ أعجب بها هنري ميلر، ووجد له ناشراً هناك، بالأحرى كان السبب في نشرها.
بيد أن النشر في الولايات المتحدة بقي بلا غد. فالافتتان بكتابة قصيري، بقي في تلك المرحلة، قسراً على فرنسا، فالناشر إدمون شارلو (الناشر الجزائري الذي أصدر أعمال ألبير كامو الأولى) عرض عليه عقداً لشراء كتبه.
قال هنري ميلر عن مجموعته هذه: “ما من كاتب حي كتب بهذا الشكل الآسر، وبهذا الشكل العنيد، حياة أولئك البشر الذين يشكلون ذلك الحشد المنطوي على نفسه... بالنسبة إليّ يشكل الكتاب مفاجأة كاملة. إنه الأول من هذا النوع الذي أقرأه منذ أعمال كبار الكتاب الروس الذين عرفناهم في الماضي”.
هذا “البعد الثوري” الذي يتحدث عنه ميلر (أي ذلك النوع من الكتب الذي يسبق الثورات والذي يسبب الثورة، هذا إذا ما كانت لغة الإنسان تمتلك سلطة ما) نجده رزينا في كتبه اللاحقة، وربما اختفى في كتبه الأخيرة، وتحديداً في “كسالى في الوادي الخصيب” أو كما في “شحاذون ومعتزّون” (تحول إلى فيلم سينمائي من إخراج أسماء البكري). فالعالم الذي يقدمه يظهر مثقلاً بالكامل عبر “القحط الإنساني الذي يدعو إلى الرثاء”.
صحيح أن كتابه هذا شكل “حدثاً” ما يوم صدوره، إلا أنه لا يمكن اعتباره “رائعته”. فرائعته الكبرى تبقى كتاب “شحاذون ومعتزّون”. ومن بين نجاحات كتبه الأخرى نجد “موت المنزل الأكيد” التي نشرت العام ,1942 في القاهرة وحيث أن عنوانها وحده يصف الأبنية المأهولة في العاصمة المصرية و”العنف والسخرية” (1962) و”موح الصحراء” (1984).
تتخيل شخصيات قصيري أحياناً وجود منفذ ماء إلا أنها تهمله أكثر مما تأخذ به. فاحتمال البؤس، وهو في المخدرات والكسل، التي تلعب دور الملجأ بشكل عام. فاللوحة البانورامية التي رسمها قصيري، عبر رواياته عن “البروليتاريا” القاهرية، بعيدة جداً عن الصور المعتادة التي عرفناها عن الشرق، عند الكتاب الفرنكوفونيين، فهذا البؤس ليس لديه ذلك السحر الذي نجده عادة في البازار الشرقي.
ألبير قصيري كان كاتباً بعيداً جداً عن أشياء هذا العالم، إلا أنه مع ذلك، نجد أن أدبه ذو راهنية حارقة، لعل موته يعيدنا إلى قراءته، إذ نحن أمام خامة كبيرة تناساها الجميع، ربما لأنه نسي نفسه في الأصل.
السفير
23 يونيو 2008