"بشير الداعوق كأنه الوداع" كتاب أصدرته "دار الطليعة" تخليداً لذكرى الراحل الكبير وهو الذي زرع خلوده في كتب لا تحصى ولا تُعدّ فأثمرت مشروعاً للثقافة التنويرية على مستوى لبنان والوطن العربي. في إهدائها الذي تصدّر هذا العمل، كتبت غادة السمان: "الى الذاكرة العربية الثرية بالأوجاع والأمجاد والنسيانات آملة ألا تصاب قريباً بمرض فقدان الذاكرة، وألا تعاني مرض "الزهايمر".. وأن تظل تتذكر بشير الداعوق الذي وهبها رفاً بطول الأفق لمكتبتها العربية".
استهلّت غادة السمان الكتاب بخمس مقدمات. وساهم فيه أقلام فكرية وثقافية وسياسية، من بينهم: بول شاوول، طلال سلمان، الياس خوري، سيمون الديري، عباس بيضون، فايز سارة، ياسين رفاعية، خليل أحمد خليل، الياس العطروني، خالد الداعوق، جهاد فاضل، أحمد بزون، أمين محمد الداعوق، بشارة مرهج، حافظ محفوظ، خيرالدين حسيب، جريدة الدستور الأردنية، مجلة دليل الكتاب اللبنانية، رفيق أبي يونس، سيمون الديري، عاطف السمرا، عبدالحميد الأحدب، عبدالحميد ناصر، عبدالعزيز حسين الصاوي، كمال فضل الله، محمود سويد، معن بشور وهيثم مناع. يضاف الى هذه الأسماء شهادات فكرية هي كناية عن برقيات للتعزية وإهداءات أخرى.
الكلمات الآتية هي مقتطفات من شهادات خطّها أصحابها استذكاراً لعلاقات شخصية جمعتهم والراحل الكبير، أو إيفاء لحقه في الحركة الفكرية التي أثْرَت الحياة العربية، كتباً وإصدارات وإغناء لمكتبة شاملة لم تكن على ما هي عليه لولا بشير الداعوق.
على رؤوس أصابع دموعي
غادة السمّان
هنا مقاطع من الكلمة الرثائية الحارة الصادقة المختزنة الدمع والذكرى، خطتها الروائية الكبيرة غادة السمان، في رفيق عمرها، زوجها، المفكر والمناضل بشير الداعوق. يذكر أن هذه الكلمة الأكثر من شهادة، والأكثر حتى من وداع، نشرت في "الحوارات" في 18/10/2007.
يبدو أنني فقدت الى الأبد لقبي: "المرأة التي لا تدمع".
فقد انتحبت الليلة طويلاً بدموع بلا صوت، وأنا في المستشفى الى جانب زوجي ورفيق عمري منذ نحو أربعة عقود: بشير الداعوق، وأودعه الوداع الأخير على طول تسع ساعات من محاولات الأطباء إنقاذ حياته من نوبة قلبية.
بشير الداعوق تمرّد حتى على مرض السرطان طوال سنتين وحين فشل في هزيمته قرر نكاية به أن يموت "بالقلب" وأن يهزم السرطان بمعنى ما قائلاً له: لن تنالني!
كنت أرقب الشاشة المتلفزة وهي ترسم ضربات قلبه التي تخفت شيئاً فشيئاً كما يضمحل الضوء في نافذتي الأخيرة على الفرح، ودموعي تنحدر على وجهي كما يقطر الماء المالح من السقف والجدران في المغاور النائية المظلمة. بكيتُ على رؤوس أصابع دموعي، بلا جلبة ولكن بحرقة، بكيتُ بدمع القلب ودمع العقل.
كان حنوناً كأم، سنداً كأب
لم يتوجع في ساعاته الأخيرة ـ والحمد لله ـ كما لو أنني كنتُ أتوجع عنه وعني معاً. وكانت تمطر داخل قلبي. تمطر خلف النافذة. تمطر بين جلدي وعظامي. تمطر داخل دورتي الدموية.
أمسكتُ بيده طوال ساعات وقناع الأوكسجين على وجهه وأنا أحاول أن أنقل إليه سيالات حبي، وأضخ فيه بعضاً من عمري الباقي وأنا أعي هول فقدي له. كان حنوناً كأم، سنداً كأب، رقيقاً كعاشق دائم، سخياً بقلبه وماله كأمير عربي أسطوري، نبيلاً وشهماً كبطل حكاية للأطفال..
وقد فقدتُه..
حين استرخى قلبه، صمت الأطباء لحضور ملك الموت في الغرفة.. وها أنا مكسورة القلب وبلا أقنعة مثل جرح عار في الريح، أنتحبُ على كتف القارئ..
النهايات تعيدنا دوماً الى البدايات الجميلة السعيدة، كأننا نلوذ بها من ذلك الحزن الجارف كله. تذكرت كيف بدأنا حكاية عمر مشترك دام عقوداً.
... الوقت أواخر آب اللهّاب في بيروت، عام 1969. عدتُ من البحر الى مكتب أستاذي سليم اللوزي في "الحوادث" وكان في زيارته العزيز منح الصلح.. سألني المرحوم سليم عما أعدّه من موضوعات جديدة، فقلت له إنني أريد كتابة تحقيق عن ازدواجية الثوريين العرب في سلوكهم الرجعي نحو المرأة. فهم يقولون خطاباً ثورياً عن تحريرها ويفعلون شيئاً آخر، والهوة شاسعة بين الفكر والممارسة. فقال المرحوم اللوزي لمنح مداعباً: الأسماء عليك يا بيك فأنت أدرى..
وأملى عليّ منح الصلح أسماء عدة بدأها باسم ميلان عبيد وبشير الداعوق ونقولا الفرزلي وغيرهم ولم أكن قد تعارفت مع أي منهم.
وهكذا، ضربتُ موعداً لمقابلة الصحافي الأستاذ ميلان عبيد في مقهى "السكوتش كلوب" في الروشة بين الخامسة والسادسة مساء، ومع بشير الداعوق (الذي لا أعرفه أيضاً) بين السادسة والسابعة في المقهى ذاته.
جاء الأستاذ ميلان وترك في نفسي أثراً طيباً ودوّنت أقواله ومضى. وجاء بشير الداعوق ولم يمض بعدها قط فقد تزوجنا بعد شهرين تقريباً.. كان اللقاء تواصلاً فكرياً وعاطفياً منذ اللحظة الأولى. قال لي إنه يقرن القول بالفعل، وما من ازدواجية لديه حين يتحدث عن حرية المرأة ودورها، وصدّقته. وشعرنا اننا نريد ان نظل معاً ولكنه كان على موعد مع "حلقة حزبية" كما صارحني وكنت ـ كما ذكرت له ـ مضطرة ليلتها لانجاز كتابة تحقيق لـ" الحوادث" وعلي الذهاب الى الفندق حيث أقيم لكتابته أو البقاء في المقهى.
قال لي: لماذا لا تكتبين في بيتي، وحين تنجزين عملك وأنجز عملي نتابع سهرتنا وحوارنا؟
وقبلت بلا تردد... فقد كنتُ قد بدأت اشعر أن المقاهي لم تعد وعائي... ولا الفنادق.
عاشق بيتهوفن
تخيلتُ شقته صغيرة عصرية كأية شقة أخرى لعازب... وتطل على البحر.
ولكنني وجدتني أخطو حقاً الى مناخات "ألف ليلة وليلة" حين فتح باب حديقة البيت وصعدنا درجات سلم تقود إلى قصر منيف والمخمل الأحمر يغطيها.
ودمدم معتذراً لأن والدته ما تزال تصطاف في منزل الأسرة في "عاليه"، كما عمه رئيس الوزارة السابق أحمد الداعوق المقيم في الطابق الأول من القصر.
حين شاهدت "بيته" ذُهلت: مكان شاسع الرحابة بسقف مرتفع مزخرف كنسخة من أجمل حجرات قصر الحمراء، ونجفة برونزية معتقة يأتي النور عبرالمخرز الملون المتدلي من فروعها، وثمة نوافد شاهقة من الزجاج الملون المزخروف وأبواب نقشت عليها الآيات القرآنية والحكم العربية. ويبدو أنه لم يلحظ دهشتي وهو يطوف بي في بيته اذ قادني الى غرفة تكدست فيها الكتب والأوراق وثمة طاولة شاسعة للعمل، فأزاح الأوراق لأكتب، وادار اسطوانة لبيتهوفن "الباستورال" أي السمفونية الريفية، وقال : بوسعك القيام بجولة سياحية على البيت فهو مليء بالاشباح وستحبين ذلك.. وأشار الى سريره البني من الخشب النادر المزخرف قائلاً: هذا السرير نام فيه الملك فيصل الأول حين زار بيروت. قلت له: انه بشع يشبه التابوت! انفجر ضاحكاً وهرول اذ تأخر عن موعده. وجلست أكتب على ألحان بيتهوفن.
اكتبي ما تشائين
شعرت بالدهشة بعد ذهابه وتركه لي هكذا بمفردي في قصر منيف وبيت مليء بالتحف الفضية والذهبية وبالحلي الماسية المنسية لوالدته، وبلوحات مصطفى فروخ وعمر الأنسي على الجدران: لوحة بريشة فروخ والده جميل الداعوق وأخرى لعمه عمر الداعوق، ولوحات أخرى ثمينة، ولكنني انشغلت بعملي عن غرابة الأمر... وحين عاد لم أتمالك نفسي وسألته: كيف تترك امرأة لا تعرف عنها شيئاً بمفردها في قصر كهذا وتأتمنها عليه وتمضي؟
قال لي: اعرف كل شيء عنك فقد أنجزت البارحة قراءة كتابك الجديد "ليل الغرباء" وكنت قد قرأت كتابيك السابقين "عيناك قدري" ولا بحر في بيروت" يسعدني ان تكتبي في بيتي والمهم أن تستمري وتكتبي. وشعرت أنه يضع حجر الاساس في علاقتنا بحرصه على ان أكتب وأكتب ولم يكن مصاباً بالازدواجية وكان يحتضن ما أخطه كالنبلاء والملوك الذين يتبنون فناً أعجبهم ووجدوه يستحق الحياة... جلس على الشرفة ليلتها بانتظاري ريثما انجزت كتابه موضوعي ل"الحوادث" ثم مضينا معاً الى البحر في الروشة والرملة البيضاء وكانت بيروت يومئذ مهرجاناً ليلياً من السهر والفرح وبهجة العيش وعقود الياسمين (...).
كتاب في كل بيت
فقد العطاء الفكري المميز وجهاً بارزاً في دنيا تعميم المعرفة معطياً للكتاب حضوره على مستوى الخاصة والعامة ليكون العلم هو الطريق المؤدي الى إثبات الوجود الحضاري انطلاقا مما لهذه الأمة من مجد في هذا المجال ما زال المورد لكل من تطلع الى الأفق الأرحب.
بشير الداعوق نذر حياته لتقديم الكتاب المتصف بعمق الفكر، والتوجه الوطني والأصالة الدالة على بعد الرؤية الى الحاضر والمستقبل، ولم يكتف بما قدمه للمكتبة العربية تأليفاً وترجمة بل شمل كل اصحاب الفكر في هذه الأمة. وكان يميز بين الغث والسمين فلم ينشر الا ما هو جديد في موضوعه وفي دلالته وكأنه مكلف بأداء رسالة معرفية لا تعترف بحواجز أو حدود الأمر الذي جعل من دار أسسها في بيروت، عاصمة الفكر قديماً وحديثاً، رائدة في ميدانها، واذا كانت مختصة فبالأفضل والأجود، وهذا ماجعلها محط أنظار الأدباد والمفكرين في هذا العصر ذي القفزات الهائلة في ميدان المعرفة.
كمال فضل الله
بشير الداعوق: الميت الحي
رغم ان بشير كان عضواً في حزب البعث قبل انقسامه وبعده، الا انني لا اعرف حتى الان بعثياً اخر يمكن ان تعيش معه صديقاً لسنوات من دون ان تختلف معه ضرورياً حول امور أساسية. ولا اذكر نقاشاً معه أو جدالا خرج خلالها عن طوره الهادئ والرزين او ان يرفع صوته عالياً.
وكان بشير شديد التواضع، وقلما تحدث عن نفسه وانجازاته، رغم كل ما قام به وفعله من خلال دار الطليعة ومجلتها وكتبها. فقد قدم خدمات واضافات فكرية هائلة وخاصة في المراحل الأولى لنشاطها كانت شبه الوحيدة في مجالها.
كما كان، رغم خلفيته الاجتماعية، تقدمياً وبقناعة فكرية، ومن خلال ذلك، ساهم عام 1964 مع لجنة منه ومن د. سعدون حمادي ود. عدنان شومان، ولا سيما بعد صدور القرارات الاشتراكية في العراق في تموز/يوليو 1964، في اعداد القرارات الاشتراكية التي صدرت في سوريا اثناء حكم البعث هناك (...)
ان بشير من جيل ومن نوعية من الأصدقاء، وبالنسبة لي بالذات، يصعب ان اعدد أو أحدد البعض من أمثاله. خسارتي الشخصية به كبيرة، وأفتقده كثيراً، وهو من القلائل الذين وافتهم المنية ولكنهم لا يزالون ايحاء في ذاكرتي ولم استطع حتى الآن ان اتصورهم امواتا، وفي مقدمتهم بشير وسعدون ومصطفى الجاف.
د. خير الدين حسيب
الناشر والمثقف والاقتصادي والانسان الكبير
والفقيد هو مؤسس وعميد ومدير عام دار الطليعة للطباعة والنشر التي لعبت دوراً نهضوياً عربياً في الستينات والسبعينات، ورئيس تحرير مجلة "دراسات عربية"، وهو خبير اقتصادي تعاون مع وزارة المال اللبنانية في مجال التشريع الضريبي. وهو اللبناني الراقي الذي لمع في سماء المعرفة والثقافة والنشر، كما تألق في ميدان الأخلاق العربية الأصيلة النبيلة، وفرض حضوره الهادئ الصامت على قلوب وعقول جميع عارفيه ومقدريه، وأثرى المكتبة العربية بروائع ونفائس وكنوز ثمرات "دار الطليعة". وقد نعاه مدراء الأقسام والعاملون في دار الطليعة، وعاهدوا اصدقاءه ومحبيه والقارئ العربي على متابعة رسالته الفكرية والثقافية بلا كلل بالتعاون مع نجله الأستاذ الجامعي بنيويورك الدكتور حازم الداعوق ورفاق مسيرته جميعاً والعمل على نهجه الصادق الذي عرف به طوال اكثر من نصف قرن في مجال النشر، وذلك وفاء منهم لمثل الراحل ومبادئه العليا.
حافظ محفوظ
رفض الجنسية الفرنسية
رفض بشير الداعوق الذي أقام في باريس منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، رفض الجنسية الفرنسية التي عرضت عليه... فقد كان مفهومه لعقيدته يحول دون ذلك!!!
وحاولت كثيراً أن أقنعه بأن الجنسية صار لها مفهوم واسع... ولم تعد مرتبطة بالدم بل صارت مرتبطة بالأرض... فكثير من القوانين تعطي الجنسية لمن يولد في البلد الذي يولد فيه بغض النظر عن الثقافة والعقائد والدم، لكن بشير الداعوق ظل متمسكاً بجواز سفره اللبناني ولم يقبل يوماً أن يضيف إليه أي جواز! وكان يعاني الأمرين في سفراته ولا سيما سفره الى أميركا للقاء ابنه حازم حيث كان مقيماً والذي كان هو وزوجته غادة السمان بهجة الحياة عنده. ومع ذلك ظل رافضاً أن يحمل أي جنسية أخرى غير الجنسية اللبنانية.
بشير الداعوق كنت أرى فيه وجه العروبة الجميل الناصع البياض، بياض كفه وبياض إيمانه وبياض مفاهيمه الأخلاقية! كان بشير الداعوق قدوة تحتذى، لكنه آثر الابتعاد عن الناس في هذا الزمن الرديء الذي أسقطت فيه السياسة كل القيم الأخلاقية. ابتعد بشير الداعوق عن هذه الأجواء وظل في حياته الباريسية منطوياً على نفسه... يتعامل بحرارة وصدق ولكن بانطواء مع كل النشاطات الثقافية العربية الحضارية المكتوبة... وكنت أقول له ان جهده في هذا الميدان ضائع... لأن الاناء معطوب ومثقوب فلا ينفع أن تضخ فيه ما تضخ ما دام لن يرسب فيه شيء!! كان بشير الداعوق كتلة هائلة من الشظايا وحين تأتي الريح تجمعه.
عبد الحميد الأحدب
وداعاً بشير الداعوق!
تغيب الشمس فهذا نظام الكون. ولكنها لا تأفل وتظل محور الدنيا تشع في كل يوم في وهج الحياة التي تضج في كل الأرجاء معلنة التفاعل الدائم والمستمر. وأن يغيب وجه الصديق الأخ العزيز الدكتور بشير الداعوق فهذه سنّة القدر، ولكنه لا يأفل في خضم الطي والنسيان لأنه الحاضر الدائم مع تجسد الحياة والتوالد مع الحبر والفكر في معطيات كل ما دار ويدور في فلسفة الحياة اليومية والتاريخية. (...)
حملته أفكاره الى الغربة مهجرة التزاماً بالعناد لطالما اتصف به والتزم معه منظومة الايمان. فالحق في العالم لا يتجزأ مهما تجاذبته الأنواء ومهما عصفت رياح التغيير. ولقد اختار أن يكون مؤمناً بما يقول وبما يفعل، محاولاً الاقتدار فوق كل المناوشات وكل الحرتقات التي حاولت أن تعصف به وبمن حوله.
عاطف السمرا
عن بشير الداعوق
(...) كان بشير الداعوق انساناً دمثاً طيب القلب كريم النفس، وظل طوال حياته الرجل الذي آمن بالحوار ونبذ العنف واعتبر العنف من مخلفات الانحطاط الأخلاقي والقصور عن معالجة قضايا الانسان المعاصر بالقيم والأصول والمثل العليا. وقد تصرّف في حياته وعلاقته بالآخرين بهذه المثل والقيم والأصول. لذا، فإن خسارته كانت فادحة للثقافة والأدب وعلم الاجتماع... وكل الموضوعات التي شجع على معالجتها في دار الطليعة، بما قدمت من كتب هي ظاهرة حضارية بمجملها، إذ كان دقيقاً في اختيار موضوعات كتبه، كي تكون الدار منارة حضارية تضع بين أيدي الأجيال الحالية والمقبلة ثمرة الفكر العربي المعاصر.
المستقبل
الجمعة 6 حزيران 2008