ربما يرى البعض أن الكلام متأخر عن أغنيتي المقدمة والنهاية للمسلسل المصري (أرابيسك) الذي كتبه المؤلف أسامة أنور عكاشة وأخرجه جمال عبد الحميد عام 1993 وقام ببطولته الفنان صلاح السعدني في دور حسن النعماني (أو حسن أرابيسك)، لكن بالنسبة لي فالإبداع متجدد ونجد فيه ما يبهرنا دائماً مادمنا (نصغي).. فاسمحوا لي ان أشارككم بعض الأفكار التي راودتني عند سماعي الأغنيتين التي قام بكتابتهما الشاعر سيد حجاب، ولحنهما الفنان عمار الشريعي، وتغنى بهما الفنان حسن فؤاد.. حينها كنت أسكن شارع الكوثر المتفرع من شارع جامعة الدول العربية بالقاهرة، ولحسن الحظ أن الشقة التي أسكنها كانت تحتوي على شيء من الآرابيسك.. فأتيحت لي فرصة كبيرة بأن أتأمل هذا الفن الدقيق والمعقد الذي لا يدل سوى على الإحتراف والإتقان ويعكس السكينة والسلام الداخلي لمن يشتغل عليه (رغم الشقاء والفقر الذي يعيشة الشخص)، فهذا فن يحتاج الى كثير من التركيز، فتداخل التفاصيل الخشبية فيه (معشقة بالصَدَف حيناً واللون أحيانا) تحتم عليك عدم الخطأ وإلا خسرت القطعة كلها.
في محاولة لنحت أغنية على نغمات الخشب
إذا دخلنا في تفاصيل أغنية البداية من المسلسل، حيث تنحت لنا آلة القانون طريقها المنمنم، تحرضها الآلات الوترية (آلات الكمان والتشيللو) متقمصة دور المطرقة التي تنهر الإزميل كي يواصل البحث عن إنحناءات لم يصل لها غيره. بعد ذلك يدخل الإيقاع كي يضيف الوشم العربي الأصيل حيث المزاهر بوقارها تنثر اللون البني على اللوحة الموسيقية، وآلة الرق تثبّت قطع الصدف الفضية بصوت صنوجها المزدوجة التي تلمع بين الأصوات، في حين تبني الكمانات لحن البداية الذي يمهد للكورال أن يدخل بجملة (وينفلت من بين إيدينا الزمان) في لحن مختلف عن المألوف، فيه حرقة وحسرة خصوصاً عند كلمة (الزمان) ليوضح لنا حسن فؤاد (كإنه سَحبة قوس في أوتار كمان) فتدخل آلة الكمان مسحوب عليها قوس محترف ومنفلت لا نكاد نطمئن لنغماته من سرعة الإنفلات. بعد نهاية المذهب يتفنن سيد حجاب في صياغة الكوبليه الأول والثاني بتفاصيل الأرابيسك، حيث تتداخل الكلمات وتمتزج حروفها فلا نعرف بداياتها من النهايات:
الشر شرق و غرب داخل في حوشنا حوشوه لا ريح شاردة تقشقش عشوشنا
حوشوا شرارة تطيش تشقق عروشنا و تغشنا المرايات تشوش وشوشنا
و تهيل تراب ع الهالة و الهيلمان
نرى حرف الشين الذي يسيطر على معظم الكلمات، يضفي طابعاً يشبه النقش المتكرر والمنثور بشكل منتظم في قطعة الأرابيسك، فسيد حجاب هنا تعامل مع حرف الشين على انها (شين النقش والشرف، الشقاء والشهامة، التشتت والوشاية، الشر والشباب، الغش والشهادة) ثم نقش بها قصيدته التي اختزلت ما أراد عكاشة قوله من خلال السعدني تحت إدارة عبد الحميد.
وفي الكوبليه الثاني نرى:
الغش طرطش رش ع الوش بويه ما درتش مين بلياتشو أو مين رزين
شاب الزمان و شقيقي مش شكل أبويا شاهت وشوشنا تهنا بين شين و زين
ولسه ياما و ياما حنشوف كمان
نلمس الحكمة في هذه الأبيات التي تنحت عبثية الزمن الذي يشتتنا لكثرة طلاسمه والشر الذي يسكن المكان فيجعلنا نتوه (بين زين وشين) لكثرة التشوه بين وجوهنا.. كل هذه الصور المتداخلة لم يرسمها حجاب إلا لكي يورطنا في لوحة أرابيسك كبيرة نحتها مع الشريعي الذي لم يتردد في ابهارنا بنقوشه الخاصة في خشب آذاننا. أما في أغنية النهاية التي تشبه في تفعيلاتها تداخل كلمات حجاب والتي تذكرنا بعصر الباروك الذي تميز بموسيقى تشبه الأرابيسك في تعقيده.. فنستمع الى آلة القانون تبدأ (رفّتها) لتنثر بلّورها المتكسر بين جمل الوتريات المتقطعة وكأنها سلسلة من الإنحناءات الخشبية مدوزنة على أوتار تقاليد الحارة التي تقدس (الحرملك) والستائر المسدولة كي تهدأ نار الشرف لتبدأ نار أخرى. فيقول حجاب في المذهب الذي اختار (الفاء) هذه المرة كي يغير انحناء نقشة قليلاً:
ويرفرف العمر الجميل الحنون ويفر ويفرفر في رفة قانون
وندور نلف مابين حقيقة وظنون وبين أسى هفهاف وهفة جنون
وفي الكوبليه الأول يسرد وصاياه منتخباً حرف الكاف كي يكون نقشه الذي يصور (الكرم والمكابدات، الكبت والتملك، التكيف والهلاك، الكفاية والتكبر، السكينة والكارثة) فيقول:
دنياك سكك حافظ على مسلكك وامسك بنفسك لا العلل تمسكك
وتوقع في خيا تملكك تهلكك أهلك يا تهلك ده انت بالناس تكون
وفي الكوبليه الثاني يقول:
ان درت ظهرك للزمن يتركك لكن سنابك مهرته تفركك
وان درت وشك للحياه تسبكك والخير يجيك بالكوم وهمك يهون
في هذه (الورشة) المتقنة يتراآى لي عكاشة في شعر حجاب وعبد الحميد في لحن الشريعي والسعدني في غناء فؤاء، فيصنعون معاً قطعة من الأرابيسك الفني الذي يخلّد توجهاً نادراً في الفن لا نلمسه في كثير من التجارب الحالية، وهذا ما جعلني اعود للحديث عن عمل مثل هذا.