يضعونك في القلق منذ البداية، يلعبون بأعصابك المنهكة كما يلعب طفل بدميته المهترئة.. هذا هو سرهم.. ففي البداية تظهر أكثر من يد لأكثر من طفل يقومون بتمزيق ورق الحائط كي يفضحون أسماء الممثلين وطاقم الإنتاج، والموسيقى تشحذ الصورة!! بداية مربكة وتفتح الباب للشك في ماهية هؤلاء الأطفال وهل هم الجزء الذي سنتعاطف معه في هذا الفيلم أم العكس؟
فيلم (الميتم) هو فيلم إسباني استحوذ على أفكاري وأعاد ترتيب تصنيفي لأفلام الرعب و الإثارة، فعندما يقوم بإنتاجه المخرج المكسيكي جويليرمو ديل تورو (مخرج فيلم متاهة بان) و يكتب نصه (سيرجيو سانشيز)، ويخرجه المخرج الإسباني (خوان أنطونيو بيونا) الذي يطرق باب الفيلم الروائي بفيلمه الطويل الأول، يجتمع هؤلاء الثلاثة لتبدأ لعبة اختيار الممثلين الرئيسيين للفيلم وهم الأم (بيلين رويدا) والطفل (روجر برينسيب) والزوج (فيرناندو كايو) و الوسيطه الروحية (جيرالدين شابلن إبنة الممثل الراحل شارلي شابلن) وهي أكثر الشخصيات رعباً في هذا الفيلم، يظل العنصر الأهم في هذا الفيلم/القصيدة هي الموسيقى، والتي تم اختيار المؤلف الموسيقي (فرناندو فيلازكيز) كي يكتبها باحتراف، ويضع فيها ما تيسر له من نغمات تعبق بالرعب والإرباك..
فهذا الفنان الذي تمرس في العزف على التشيللو مع مجموعة متنوعة من الفرق الأوركسترالية في إسبانيا وخارجها، مما جعله بارعاً في الكتابة اللحنية للآلات الوترية، ففي اعتقادي ان فيلم (الميتم) يحتاج الى هذا النوع من الكتابة الموسيقية التي تمعن في إظهار الحالة النفسية للشخص وللمكان في ذات الوقت، بآلات موسيقية ذات صوت مستمر مثل آلة الكمان في منطقتها الحادة، الى جانب التشيللو في حنانه إضافة الى كئابة آلة الفيولا مسنودة بنبض الكونترباص، فالآلات التي تعزف بأقواس، تمكن المؤلف (والعازف في نفس الوقت) على تفسير الحالة السيكولوجية من خلال نوع سحب القوس على الوتر مما يضفي على المشهد شرارة كامنة لا يمكن اقتفاؤها بدون الموسيقى.
وقد استلهم فرناندو فيلازكيز موسيقاه من البيئة والموروث الإسباني بكل تفاصيلة لكن دون أن يقع في الخطأ الذي سبقه له مؤلفين كثيرين من إسبانيا وهو إما الإفراط في كتابة موسيقى غجرية بصورتها التقليدية أو اللجوء الى التغريب الموسيقي مما يجعل الهوية الإسبانية متأرجحة بشكل مربك لدى المؤلف والمستمع، كما فعل من قبله المؤلف الموسيقي والمخرج المبدع رغم صغر سنه (اليخاندرو أمينابار) في فيلم (الآخرون) الذي قامت ببطولته نيكول كيدمان، لكنه تجاوزها في أفلام أخرى بعد ذلك وقبله، وقلة هم الذين ينتبهون لهذه الإشكالية التي يعتبرها البعض ميزة.
ومن المؤلفين الإسبان الذين حافظوا على هويتهم الإسبانية في موسيقاهم المكتوبة للأوركسترا للسينما (ألبيرتو إجليسياس) الذي كتب موسيقى فيلم (تحدث معها). ومع أن الفيلم كان من ضمن شخوصه إمرأة تمتهن مصارعة الثيران، وهذا يعتبر عذراً جاهزاً كي تتمرغ الموسيقى في نيران الغجر كي تحكي نغماتها، إلا انه أعطى المشهد حقه من الغجرية وركز على الموضوع الأساسي للفيلم (والذي يتجاوز هذا كله) وهو من الأفلام التي أسرتني للمخرج (المودوفار).
كان تدفق الألحان الرئيسية في فيلم (الميتم) واضحاً ومكتوباً بأسلوب متناهي في الشاعرية التي تشبه شاعرية الموضوع الذي يدور حوله الفيلم الى جانب الكادرات البصرية التي اقترحها المخرج بضوءها وظلها اللذان كانا محور المشهد. فخبرة فيلازكيز في موسيقى الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة الى جانب كتابته لمجموعة من الأعمال الموسيقية في صورتها الكلاسيكية، جعلته جديراً بكثير من الجوائز الخاصة بموسيقى الأفلام في محافل مختلفة حول العالم، ويبدو أنه سيتخصص في موسيقى أفلام الرعب بعد كتابته لمجموعة كبيرة من الأفلام التي تتناول قضايا مرعبة مع مخرجين من إسبانيا وخارجها.
طاقم متكامل من العمل المتقن في كل تفاصيله، فنانون يتقنون اللعب على المشاعر بأدوات يافعة وجريئة، مع أن الكلمات لا تسعفني كي أصف المشهد سينمائياً لكنني أعرف بأن في هذا الفيلم (الأول لمخرجه) سيكون نموذجاً لكثير من المخرجين الجدد الذين يصغون بأعينهم ويتركون لآذانهم بقية الحواس.