ومن المواقف التي مر بها (شوبان) بعد هروبه من بلدته بولندا لأمور مشرفة حقاً جعلته يسجل موقفاً سياسياً مبكراً نظراً لصغر سنه، وكان وقتها ليس مشهوراً حيث أخذه أستاذه (الذي هرب معه إلى فرنسا) لمتعهد حفلات كي ينظم له أمسية موسيقية، لكن المتعهد رفض ذلك بحجة أنه غير مشهور وهو لا يستطيع المجازفة بماله على شخص ليس له جمهور، وأثناء المناقشات داخل مكتب المتعهد يسمع صوت عزف على البيانو في الصالة الخاصة بمكتب المتعهد وعند خروجهم يفاجأون بالمؤلف (فرانز ليست) الذي كان في قمة شهرته حينها، وهو يعزف المدونة التي وجدها على البيانو وعندما سأل من مؤلفها أجاب شوبان بأنها من تأليفه... عندها فقط وافق المتعهد على تنظيم أمسية له!
من هاتين التجربتين الطاعنتين في القدم نرى كيف تنسل الرغبات والنوايا الخاصة والشخصية لتستوطن في أحشاء التجربة وتتدخل في أدق التفاصيل لتنفيذ مآرب ليس لها علاقة بالعمل الإبداعي.
في زمننا الحالي نرى شيئاً مشابها لهذه المواقف ولكن الأسماء تختلف. فهناك ما يسمى (مؤسسات الإنتاج الفني).. ففي الغرب وظيفة المنتج الفني تختلف عنه في الشرق أو بالأخص في الوسط الفني العربي، فالمنتج هناك هو شخص يقوم بتأليف الأعمال الموسيقية أو ربما موزع موسيقي يكتب أعمالاً للأوركسترا وفي بعض الأحيان يكتب الشعر أو يغني، فإذا تصدى شخص مثل هذا إلى تجربة إنتاجية يكون مؤهلاً للدخول في أدق التفاصيل الخاصة بهذه التجربة الإبداعية، فيشارك المنتج الفني في اختيار العازفين لكل مقطوعة موسيقية في هذا الإصدار، حيث أنه صاحب خبرة في الألوان الموسيقية والعازفين المتميزين، وتتعدد إمكانيات المنتج الفني وتتطور إلى أن يصبح مؤسسة تتكون من طاقم فني متخصص، يهتم كل قسم في هذه المؤسسة بمجاله، حيث القسم الذي يهتم باختيار الشعراء وتوجهاتهم الشعرية وتقديم أعمالهم للأشخاص الذين ينتقون بعناية الموسيقيين والمغنين الذين يجمعون بينهم عن طريق العقود التي تهيئ لهم جواً مناسباً للإبداع، مروراً باختيار مهندسي الصوت والتعاقد مع الاستوديوهات لتدشين هذا العمل الفني.. خلية متكاملة من الطاقم (المتخصص) في عمله..
طبعاً لا أنكر أن كثيراً من التجارب الموسيقية والغنائية العربية التي نجحت بسبب إشراف طاقم متفان في عمله ومتخصص في انتقاء أفضل العناصر الجديرة بتجربة كهذه، فتجربة فيروز (على سبيل المثال لا الحصر) سواء في اشتغالها مع الأخوين أو ابنها زياد أو حتى تجاربها المتفرقة مع فيلمون وهبي أو زكي ناصيف وغيرهم، كانت تجربة مشرفة حقاً وتدل على ذوق فني وإخلاص للمادة المقدمة في التجربة الغنائية وقد كان اسم عبدالله شاهين وأولاده أو صوت الشرق كمنتجين ملازماً لمشوار الرحابنة لفترة ليست بالقصيرة وهذا دليل على تجربة مدروسة وموفقة في رسم المشاريع الفنية لصوت نادر كصوت فيروز.
من أكثر الأشياء خطورة في إنتاج الأغنية في العالم العربي هو المنتج، فكثير من شركات الإنتاج (الفني) ليس لها علاقة بالفن. فمثلا يدخل المنتج تجربة فنية مع فنان شاب مبتدئ يطمح في طرح اسمه في الوسط الفني ومستعد بأن يضع نفسه تحت رحمة احتكار هذا المنتج لمدة 5 إلى 8 سنوات مقابل ذلك!! فيبدأ المنتج بفرض شروطه التي لا تمت صلة بالفن الذي يريده الفنان. فيفرض عدد الأغاني في الشريط ويفرض مواضيعها، ويفرض اسم الشاعر لأنه صديقه، واسم الملحن لأنه عندما لحن للفنان ( ) نجحت الأغنية، وكل هذه مقاييس ليست مقنعة. لكن ممكن أن نرجح هذا التفكير غير الفني أنه فكر تسويقي خاص باتجاه رجال الأعمال، وهذا حق، لكن إذا كانت هذه هي مقاييس التسويق عند المنتج (الفني) فهي مقاييس سطحية وليس لها صفة الاستمرارية. والمؤلم أن المغني الشاب يقبل بكل ذلك مقابل الظهور على الساحة، فتراه يتجه إلى أسلوب غنائي بعيد كل البعد عما يتقنه ويتميز به من أداء، فيظهر صوته باهتاً وسط الألوان الإيقاعية والألحان التي ألبسها صوته.
والأكثر فضاعة عندما يتم الحديث عن الفيديو كليب الذي يقتل الأغنية في العالم العربي (مع احترامي للتجارب الإبداعية القليلة واستثنائها لأنها حقاً مشرفة)، ففكرة الفيديو كليب عندنا هي عبارة عن تقليد غير واعٍ وتفسير خاطئ للنماذج الرديئة من الفيديو كليب الغربي، وهذا ليس كلاماً جديداً. فعندنا يتم تقييم الفيديو كليب حسب التقنية المستخدمة في التصوير وجمال الفتيات اللاتي يرقصن فيه وعددهن، ونادراً ما نرى سيناريو واضحاً لموضوع الأغنية وحتى الأغاني التي تحمل قصة وموقفاً، لا يتم تنفيذها بشكل مرضٍ. وهنا يكمن التشويه لكل ما يمكن أن يكون جميلاً في مشروع الأغنية الموؤدة. فيتحول مشروع الأغنية إلى عمل (كاباريهي) تتنافس فيه الراقصات بذخيرتهن. ما يجعل المتفرج يصب تركيزه على التصوير العشوائي ويتم تشتيته عن كل ما في الأغنية التي أصبحت خلفية للصورة. وللأسف أن أغلب الفضائيات العربية تروج لمثل هذه الأعمال وتدفع فيها مبالغ طائلة، في النهاية عندما يصدر الألبوم، نرى الفنان المبتدئ على 17 قناة فضائية لسبع دول عربية خلال الثلاثة أشهر الأولى من الإصدار، وهذا ما كان يطمح له (ولكن بشكل مختلف قليلا!).
هذا ما يخص الأغنية، أما عندما نذهب للكلام عن الموسيقى يكون الوضع أكثر ألماً، فالسوق العربية لا تدعم الأعمال الموسيقية البحتة! والمنتجون لا يجازفون بإنتاج شريط لمدة ساعة بدون كلام: من يستطيع الصمود ليستمع إلى الشريط كاملاً؟ فالثقافة العربية لم تبنَ على الموسيقى أساساً (لأسباب لا يتسع الوقت والقلب للكلام عنها) بل بنيت على الشعر مسموعاً أكثر منه مقروءاً-مما يجعل للأغنية في ثقافتنا مكاناً آمناً (الى حدٍ ما) أكثر منه للموسيقى، فالموسيقى عند البعض وظيفتها أنها تصاحب الغناء وتعزف بعض الألحان (Themes) بين مقطعين غنائيين، ومع ذلك فالبعض لا يستطيع أن يصبر حتى تنتهي المقدمة الموسيقية لأغنية ما، حيث يضغط على زر التسريع حتى يصل إلى المقطع الغنائي ليطمئن!!
لكن من جهة أخرى في تجربة كتجربة عمر خيرت، نجد حضوراً طاغياً للجملة الموسيقية والإيقاع الشعبي المطور حتى في الأغاني التي قام بتلحينها أو توزيعها لعلي الحجار مثلاً أو أنغام، فاستطاعت موسيقى عمر خيرت أن تجذب المنتجين لها حتى الذين لا يقامرون بإنتاج أعمال موسيقية. مما أدى إلى أن الكثير من البرامج التلفزيونية استعانت بموسيقاه، ناهيك عن استعانة كثير من المخرجين السينمائيين والتلفزيونيين به ليكتب موسيقى لأعمالهم. هذا نموذج استطاع أن يحقق انتشاراً تجارياً وفي نفس الوقت لم يتنازل عن قيمة العمل الإبداعي وتطويره المستمر.
وكنوع من الذكاء الموسيقي استطاع زياد رحباني أن يتفادى رفض المنتجين لإنتاج أعمال موسيقية بحته بأن يصدر ألبوماً غنائياً سواء بصوته أو بصوت السيدة فيروز أو بصوت أحد (رفاقه): جوزيف صقر، سلمى المصفي أو سامي حوّاط، لكن تأخذ فيه الموسيقى حقها كاملاً كما يريد هو، وتكون الكتابة الموسيقية عالية التقنية سواء في اللحن أو التوزيع أو العزف فهو ينتقي عازفيه بعناية، وفي كثير من الأحيان يطغى الاهتمام بالموسيقى عند زياد على اهتمامه بالكلمة المغناة، فتكون القصيدة ضعيفة بالمقارنة مع العمق اللحني الذي يصيغ فيه الأغنية، وهذا يعتبر دليلاً (لكثير من التجارب التي قام بها) يؤكد بأنه يريد طرح أفكار موسيقية من خلال بعض الأعمال.. بذلك استطاع أن يكتب ما يريد من موسيقى وفي نفس الوقت لا يتردد منتج من الدخول في تجربة إنتاجية معه...... معركة مستمرة!