لا أسافر لمكان إلا وأنا مدجج بالموسيقى.. لا أغادر إلا وهي تملأ جيبي وأذني، مثل تعاويذ أحكم ربطها في ثيابي وأترك خيطاً رفيعاً يخرج من قميصي متوجهاً الى أذنيّ كي يهمس فيهما بطلاسم النغمات التي لا كتب تأولها ولا قوانين تغرر بها.. طلاسمٌ يطفر منها الرمز ليجعل المكان أكثر طهارة مما يقولون.. قيل إنها لغة مجنونة، لا تعرف الحرف ولا تؤمن بالتآويل..
الموسيقى في السفر.. هي التي ترشدني الى الضياع في ثلجة الوقت، ونارة المكان. أمشي في طرقات أجهل لغتها وترتعب للغتي، لكنها الموسيقى تحرسني وتدلني الى لغة تتشابه فيها الأجساد كلما تلبستها حمّى النغمة السوداء، وجنون التآلف الناقص. أجسادٌ تتهجى حروف الألم، وتتخذ من الإيقاع رصيفاً يفصل جادتي الحزن عن ساحة البهجة، أجساد تدوزن أطرافها على ملح الغياب حيناً، ونشوة العناق أحياناً. فيصبح (التانغو) رجلاً يثور على جرحه، فيغسل حزنه على نحيب الأحذية، فيما تشهق (الميرينغي) منادية رفيقتي دربها التوأمتين (السامبا والرومبا) كي يعبران معها تفاصيل المكان، وبما أن الرومبا ماتزال التوأمة الشقية التي تباهي بحركاتها الإيروتيكية كي تسلب عشاقها ما تبقى لهم من طاقة، فيما تظل السامبا الحكيمة متأرجحة بين الحزن والفرح النقي الذي يجعلك تنحني لطهارتها.
أعبر تفاصيل الرقص ومازالت خيوط الصوت تتدلى من أذني مخترقة ثيابي لتصل الى جيبي الأيسر حيث المصدر. جمرة صغيرة تحوي نغمات العالم بأصوات آلات لا أعرف شكلها، وأغنيات كتبت بلغات مبهمة بالنسبة لي، لا أرتشف منها إلا النغمة الصحيحة وصدق الأداء، وأترك للتأويل مكاناً شاسعاً تطرد فيه خيول خيالي، وتنبت فيه دهشتي السافرة.
الموسيقى في السفر رفيقة.. لا تذهب عنك بل تذهب بك ولا تتعب، رفيقةٌ مباحة لك حكاياها حتى صياح الديك، وحدها تؤنس وحشتك إذا الحبيبة غابت أو قررت انها لن تأت.. وحدها تغريك كي تغفو بين نغماتها إذا تأخر عنك الحلم، تهدهدك بأهازيج تغرر بالنوم وكوابيسه، تؤثث لك الأفق وتفترش لك مقاماً (ترتاح فيه أرواح) العرب وتهنأ، ثم تصعد مع ذوقك الى (الأوج)، عندها تصبح صديقاً (للعجم) وسكنة (الحجاز) معاً، فتفوز (بنوا الأثر). رفيقة تهمس في أذنك، فتغويك بعُرَبٍ تأخذ النفس، تقنعك بالحزن حتى تكاد تبكي، تنتظرك أينما تركتها ولا تملّ.. كلما أيقظتها من سكينتها، تواصل الكلام لك بحماس وكأنها بدأت للتو. تحبك وحدك ولا يصرفها عنك إلاك.
الموسيقى في السفر وطن.. يحرس خطاك أينما ذهبت، وطنٌ لا ترعبه الحدود ولا يخشى الحروب، فتراه يشد الوتر المنتور ليضع عليه قوساً يجعلك في البكاء لفرط اللذة، قوسٌ يأخذ من النوستالجيا أسلحة أشد فتكاً من القتل، فترى نفسك ملفوحاً بشمس البنائين وعرق الحداده، وترى نفسك تركض حافياً بين أروقة حي الصاغة الحارقة، مع أن قدميك تكون مغروسة في ثلج ستوكهولم التي تختبئ تحت الصفر بعشرين درجة!! فقط عندما تصغي الى "أشوف الحد بعيونه ورفاعي بريحة المشموم..... سمار محرقي بلونه ونجمة في المنامة تحوم".
الموسيقى في السفر نديم.. لا يأبه بلونك ولا دينك، نديمٌ يسرد لك حكايا العالم ولا يغفل عنك، يصغي لك وأنت تستمع اليه! فتراه يسعى لإرضاءك، وإذا لم ترض يعيد نغماته عليك كلما شئت.. ذوقه يشبه ذوقك دائماً، وكلما لعب بك نرد مزاجك، تراه يسبقك برمي نرده أولاً لتختار ما يطيب لك من ألحان تليق بتقلبك.
الموسيقى في السفر هدية.. تفرح بها كلما ذهبت في الإنتظار بين طوابير السفر والإقامة، هديةٌ تلهيك وتجعلك تغفر للتأخير ما يفعله بالناس، وتتمنى لو أنه يمعن أكثر في الغياب كي يطيب لك الإصغاء أكثر. فما إن يهديك أحد الأصدقاء موسيقى تنسجها بخيط الصوت الذي يسكن أذنك، حتى تراه معك، يرافقك أينما حللت، في سفرك البعيد، تراه يرقبك في محطات الميترو، ثم تراه بين حشود المصلين في الكاثدرائيات القوطية.
الموسيقى في السفر.. هي السفر