«قلب لكي تحيا.. قلبان لكي تحب»
قاسم حداد
كيف لنا أن نغفل عن موسيقى القلب وهي التي توقظ الإيقاع فينا قبل الحرف وقبل النغمة، فمنذ الماء الأول حيث لم نكن نسمع إلا ثنائية لإيقاع قلبين يملكان من الطهارة ما يجعل الخلق أكثر غموضاً ورهبة. قلب قديم يتملكه الألم والانتظار، وقلب جديد يسكن التخلق والدهشة، نبض رزين وبه من الحكمة ما يجعله طريقاً ملكية لنجاة الكائن، ونبض شقي يحوي شعلة لا تتعب، صغير لكنه يفرض حضوره منذ تأخر الاكتشاف! ثنائية إيقاعية لاتتقنها الآلهة، ولا يفهمها البشر.. حوارية متآلفة بين قلبين يذهبان في الرحمة المبكرة بين الجنين وأمه، قلب يبوح الحب مطرزاً بالألم... وقلب يصغي.
كيف لنا أن نغفل عن كل هذه الأوردة وهي تحمل الإيقاع لتوزعه برشاقة بين زوايا الجسد المحموم لفرط الغياب، شرايين كأن الكهرباء تقمصتها وهي منهمكة في إخلاصها لكلام السيد القلب. قلب جالس في عرشه يقرع طبوله التي لا تهدأ، عضلة وحيدة لا تنام أبداً، تتقن السهر لتحرس الجسد من نفسه، ولا يسعفها في وحشة العرش إلا صوت إيقاعها الذي يفتح لك باب الارتجال اللحني، فلك أن تختار ما يطيب لك من موسيقى تليق بإيقاع الوحشة في العمل، قلب وحيد في منجم صغير، يعلق قنديله بين الأضلاع كي يؤنسه ويصغي لإيقاعه وهو منهمك في اكتشاف أكثر المعادن ندرة... أنت.
كيف لنا أن نغفل عن إيقاع القلب الذي منح عمره كله لكي يطيل أعمارنا، تكفل بالجسد وأعضائه، ففي كل نبض نسمعه كان القلب يمنحنا الحمرة والهواء. نخذله أحياناً ونموت عنه، لكنه يدوزن قصعته على أجساد غير أجسادنا، فقط كي لا يخرج من ورشته التي لا يتمنى أن تطفئ أنوارها، فموهبة المنح لديه لا تهدأ، إيقاعه يليق بكل جسد يحترم النبض ويتقن الإصغاء، فلا يفرق أبداً بين الناس في منحه للحب، إلا بما يمنحهم من سرعة الإيقاع، فيختار للأطفال ما يليق من (الأليجرو والأليجريتو)، فيما يترك للشيوخ وقار (الأندانتي، والأداجيو).
كيف لنا أن نغفل عن قلب صامت يقرع طبوله ويرفض الكلام، مثل مظاهرة تجوب أروقة البرازيل بسمرة فِتية تملكهم شبق الإيقاع وسط الشارع، قلب يذهب الى عمله في صمت كي لا يخطئ في ترقيمه لأخطائنا عليه، والتي سرعان ما يمسحها ويغفر لنا ونحن في النوم، يرسم طريقنا مازورة مازورة، ويمنحنا الوقت القصير فقط كي نقرأ موسيقاه، ولا يأبه إن كنا موسيقيين، أو أطباء، فالموازير تتشابه أينما ذهبت، والقلب يظل قبلة محايدة، لا دين يحدها، ولا تنتظر الطقوس.
كيف لنا أن نغفل عن حبنا الشاسع لفن (لفجري) وخصوصاً الحساوي!! وهو الفن الذي يعتبر الترجمة الأكثر قرباً لإيقاع القلب، فعندما يقول القلب بتأني وحسم (دوم دوم-/ دوم دوم / دوم دوم-/ دوم دوم) يجيب الحساوي على نفس الضرب الإيقاعي وبرزانة وهدوء (دوم دوم /-تاك تاك / دوم دوم-/ تاك تاك)، فكلما مر علينا هذا الإيقاع الساحر الذي ابتكره البحارة وهم مأخوذون بالماء، نشعر بأن صوتاً خفياً نعرفه يبدأ في إيقاظنا، نعتقد بأنه التراث، لكنه أقدم من ذلك بكثير، إنه إيقاع القلب في شكله الأول، عندما لم نكن نسمع إلها في مائنا الأول، فليس غريباً أن يشعر البحارة وهم وسط كل هذا الماء الأزرق، أن إيقاع الحساوي وحده يليق بمكان كهذا! فالماء الأول مازال يسكن الذاكرة الغائبة بإيقاعه الرتيب (دوم دوم /-تاك تاك).
كيف لنا أن نغفل عن إيقاع القلب في حضورها!! وكيف أنها قادرة على تغيير سرعته كيفما شاءت: وهي تنظر إليك من بعيد، وهي تهمس لك كي تطمئن على قلقك، وهي متشبثة بإحدى يديك وسط زحام السفر. عندها تصبح طبولك أسرع وأنفاسك تتحول الى صنوج صغيرة تضيف الى الإيقاع قدسية تليق بها، في حضورها تصبح أوتارك جميعها مشدودة على نغمة واحدة، هي نغمة العشق، حيث يبدأ القلب عندها دوزنة أوتاره على طبقة تشبه صوتها الملائكي، فتصبح حنجرتك هي مرآتك، والقلب يضخ ما تيسر له من حمرة كي يسعف بها الكلام المتلعثم، قلب يقف لك في كل موقف، ولا يقف عنك أبداً.
كيف لنا أن نغفل عن قلب أم تدوزنه على ذوقك بمفتاح روحها الطاهرة، ثم عن غير قصد يضيع المفتاح عمداً، عندها ترى نفسها تمنح لك القلب كله، وإيقاعه يحرس خطاك ويرشدك للصواب دائماً، قلب ينبض باسمك أينما ذهبت، ويعزف إيقاع الصلوات كي يوقظ الآلهة جميعها لتحرسك في الغياب، أمٌ تنسى قلبها منذ أن رأتك في الغرفة المجاورة وأنت في شهرك السابع تخذل الموت وتختار الانتظار، أمٌ لا تكترث بقلبٍ غير اسمك، يتغير إيقاع قلبها كلما ذهبت انت في التجربة، حينها يختار القلب نبضه الذي يليق بك انت، بعد أن منحتك هي تفاصيله. جسدها الضئيل يتطاير مثل ورقة خريفية، وهي لا تكترث إلا بربيعك الذي لا تكف عن وصفه لك كي لا تغفل أنت عن جمرتك.
كيف لنا أن نغفل عن كل هذه الموسيقى التي تتجول بين أحشاءنا في صمت..
كيف لنا أن نغفل...
كيف لنا...