يختار إسماً ناقصاً ليترك لنا فرصة التأويل كعادته في كل ما يقدم، فكلمة (ضيعانو) في اللهجة الشامية عموماً واللبنانية خصوصاً تدل على التحسّر مثل (يا خسارة!). كلمة تقال دائماً بعد فوات الأوان.
لندخل في تفاصيل هذه المقطوعة كي نرى ما هي الخسارة التي ممكن أن نصادفها في عمل موسيقي كهذا؟
تبدأ المقطوعة الموسيقية بدخول تآلفات ناقصة لآلة الجيتار الكهربائي خافتة وناعمة، يبني عليها زياد لحن المقدمة المصاحب لهذه التآلفات والمكتوب لآلة البزق، وهي آلة غير مألوفة لهذا النوع من المؤلفات الموسيقية التي تنتهج أسلوب الجاز بشكله العميق القاتم، لكن زياد دائماً يستطيع ابتكار جملة لحنية قادرة على استيعاب الفلكلور الشامي والجاز الغربي في الوقت ذاته، ويخلق حوارية (نادرة عند الموسيقيين العرب) تجعل من البزق آلة تليق (بالجاز الشرقي) كما يطيب له أن يسميه، لذلك عند دخول الجملة اللحنية في بداية المقطوعة لا تدهشنا الخامة الصوتية للبزق، بل الجملة في تركيبها اللحني المتسائل هي التي تشدنا، خصوصاً أنها مصاحبة لآلة نفخ خشبي وهي الفلوت في طبقة الآلتو، تسرد معها نفس السؤال اللحني الذي يعاد مرتين ولا ينتظر جواباً، وكأن الوقت قد فاتنا ولا جدوى من البحث عن جواب الآن، فقط أراد زياد أن يخبرنا بأن هذا هو السؤال الذي بإمكانه أن يفتح الباب.
تبدأ قافلة الوتريات الرخيمة في سرد الجملة الرئيسية للعمل كله، يصاحبها الإيقاع الحذر الى جانب آلة الباص التي تؤكد الكآبة الكامنة في العمل الموسيقي، مع تآلفات البيانو الإلكتروني التي تؤكد روح موسيقى الجاز لكي لا نغفل. والجملة الموسيقية هنا فيها كثير من الحكمة اللحنية ووقار في السرد، لكن الإنكسار واضح في زوايا الجملة، حيث النغمات مهزومة وكأنها كلمات لعرّاف رأى ما سيحدث قبل حدوثه لكن لم يصدقه أحد، والآن يتحدث بحرقة وتحسر وكأنه يحمّل نفسه ذنب ما حصل.
تعاد الجملة نفسها للوتريات ولكن بمصاحبة البزق يبدأ معها ثم ينضم صوت فيروز باعثاً مراياً أخرى للجملة الموسيقية، فتدخل مترنمة بحروف تستند بها كي توصل اللحن دون اللجوء للكلمة، عندها تتلاشى الوتريات الغليضة تحت صوتها الحكيم لتدخل الطبقات الأخرى من الوتريات راسمة أفقاً أكثر رحابة يليق بحكمة فيروز وهي تسرد الألم، وكأنها تهدهد طفل الثورة في نومه الشفيف، أو تسرّ لجمرة عاشقٍ أتلفه الغياب.
فتتجلى فيروز بنغماتها المبهمة وتأخذ اللحن بآهة وقورة وحذرة إلى أوجٍ يستفز الكورس (رجالاً ونساء) الذي يخرج من صمته فيرد عليها باللحن الثاني للمقطوعة محاولاً محاكات ما تترنم به من ألم، فتتفجر مع الكورس آلات النفخ الخشبي، حيث تضفي تأوهات غير مسموعة تمتزج مع أصوات الكورس، فيولد عندها الحماس الأول للمقطوعة، وكأن هناك ثورة في طور النضوج، أو عاشق في طريقه الى البوح. أما آلة التامبورين الإيقاعية التي تحتمل الفرح عندما تتلبس رنين الحجل في رجل خيل، تتقمص الحزن في صليل القيود أيضاً في هذا العمل بمساعدة الصنوج العالية. نسمع هذا كله فقط مع دخول الكورس الجماعي الذي يدخل محروساً بضربات مزاهر فيها رائحة موتٍ محتمل، أو سرير مقبل على الحب.
ثم يهدأ الجمع مع دخول النفخ النحاسي ليأخذ دوره، حيث آلتي الكورنيت تعزفان بروية نفس اللحن الأساسي مخفورتان بتآلفات من نفس العائلة الصوتية، ونسمع البزق وكأنه يشكي كي يشعل الطريق أسئلة، متضرعاً لهما أن يستدعوا أكثر آلات النحاس بريقاً لتسعف هذا التصاعد اللحني (فالنحاس يليق بمواكب الملوك وجنازاتهم أيضاً).
يدخل صوت فيروز بشموخه (على نفس اللحن) كي يؤكد لآلتي النحاس أن البزق على حق، فيما تشحذ الوتريات لحنها القادم بحدة وثقة، فما إن تنتهي فيروز من لحنها حتى تحتشد الآلات جميعها مع الكورس في لحنه الثاني، وتنهمك الوتريات في حياكة نغماتها بين الآلات الأخرى كي تزيدها صرامة، وهي تنتظر ما تبقى من آلات النحاس لتنظم لهذا الركب الموسيقي في إعادة اللحن مرة أخرى، حيث تتفجر منه صرخات الترومبيت التي توقظ الطبول جميعها، فينقسم الكورس الى فرق أكثر تشعباً، ليصبح الصوت أكثر رهبة وتصاعداً.. ثم يتفرق الجمع الموسيقي بسحبات مهدئة للآلات الوترية تجعل الإيقاع يترك النبض، والجيتار يذهب وهو غير مصدق أن هذه هي النهاية.
ليس من السهل أن تتفادى فيروز تجربة موسيقية مثل هذه، يقترحها عليها إبنٌ ثائر مثل زياد، فهذه المرة الأولى التي نسمع فيها فيروز (الآلة الموسيقية وليست المغنية) وهذا النوع من التحدي الذي يقترحه زياد لا بد له من ثورة لحنية تليق بتنازل فيروز عن شخصيتها الغنائية.
قد تستفز هذه التجربة الكثير من الأدمغة الكلاسيكية في حبها لفيروز الرمز، مما يجعلها تتمتم: (ضيعانو صوت فيروز بتجربة كهذه!). لكن المبهر في تورط فيروز في هذه التجربة، هو إبتكار هذه الآلة الموسيقية النادرة والتي لن تتكرر في تجارب أخرى، آلة موسيقية مصنوعة من ذائقة زياد وبأوتار فيروز.. ليس هناك مكسب أكثر من ذلك، و (ضيعانو) من لم يستمع لهذه المقطوعة التي لا يمسّها الزمن.