فيلم (فتاة عائلة بولين الأخرى) يقدم مجموعة من الصور الجمالية التي احترف في صياغتها المخرج جاستن شادويك الذي اختار نصاً روائياً مميزاً للمؤلف فيليبا جريجوري يتعرض فيه لقصة فتاتين تؤثران على مرحلة تأسيس بريطانيا الحديثة بما يشبه السرد التاريخي ممزوجاً بالرؤى الخاصة والتي تحوي اسقاطات رشيقة مدسوسة بين الأحداث (لمن يحب)، وقد كان المخرج شادويك موفقاً في اختيار مجموعة من أكثر الممثلين نبضاً بالحياة وأكثرهم تحدياً، فالشقيقتان هما نتالي بورتمان وسكارليت يوهانسن وقام بأداء دور الملك هنري الثامن الممثل الأسترالي إيريك بانا الذي كان بطل فيلم ميونخ للمخرج ستيفن سبيلبرج، أما الدور الصغير لأم الفتاتين والذي كانت انفعالاته مؤثرة فقد قامت به الممثلة الإنجليزية كريستن سكوت توماس بطلة فيلم المريض الإنجليزي..
طبعاً وسط كل هذه الأسماء المميزة يظهر إسم المؤلف الموسيقي الذي عالج الفيلم برؤية مناسبة وذكية وهو بول كانتيلون وهو مؤلف موسيقي وعازف بيانو أمريكي من مواليد كاليفورنيا، متخصص في تأليف الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة، إلا أنه دخل عالم السينما مؤخراً بشكل مميز ولافت، ويظهر في هذا الفيلم مخزونه المتراكم لموسيقى العصور القديمة كالرينيسانس (النهضة) والركوكو والكلاسيك، الى جانب اللمحات البسيطة لموسيقى العصور الوسطى من الحان شعبية ورقصات فلكلورية. فقد كان كانتيلون بارعاً في صياغة موسيقى الفيلم، حيث خطورة التأليف الموسيقي لفيلم بهذا الحجم تكمن في مجازفة المؤلف بوضع موسيقى لمدة تتعدى الساعة تقريباً بآلات قليلة كأوركسترا الحجرة (وهي مجموعة صغيرة من الآلات الوترية وآلات النفخ)، لكن ذكائه كان واضحاً في التنوع اللحني الكبير للأفكار الرئيسية التي كتبها للفيلم، وبذلك اصبحت موسيقاه واضحة ومؤثرة طوال الفيلم.
في هذا الفيلم يتجاوز بول كانتيلون التقاليد الموسيقية حيث يذهب الى التناقضات جميعها بثقة وذكاء، فمزاوجته لأوركسترا التشيك الفلهارمونية لموسيقى الحجرة التي برعت في أداء الحانة ذات العبق القوطي، مع الخامات الصوتية الإلكترونية ذات الصبغة المعاصرة، في هذا المزيج خلق كانتيلون التوازن بين الأسس الكلاسيكية وتقاليدها، والضرورة السينمائية التي تحتم عليه الدخول في عوالم أحياناً تكون متناقضة مع الخط العام للكتابة الموسيقية التي ينتهجها. وبثيمات لحنية وموتيفات موسيقية مختلفة استطاع ان يحاكي طريقة السرد التي اقترحها المخرج لمعالجة التعقيد السردي للرواية الأصلية.
فترى اللحن قاتماً في مشهد عودة الملك الى القصر بعد لقائه بعائلة بولين، وتستمع الى تدفق لحني متناهي في الحزن في مشهد الملك وهو يتقرب الى ماري، كل هذا التناقض بين الصورة والموسيقى جدير بالمشهد وما وراءه. فالجميل والمختلف عند كانتيلون هو أنه لا يبالغ في كتابة موسيقاه كي يعكس الفترة الزمنية فقط، (كما يفعل كثير من المؤلفين أمثال المؤلف الكبير جون باري الذي برع في كتابة موسيقى فيلم الرقص مع الذئاب)، فكانتيلون يكتب الحدث الدرامي بأدوات الفترة الزمنية، ولا يفعل العكس (الذي هو جميل أيضاً)، فكتابة الفترة الزمنية من خلال الحدث الدرامي فيه كثير من الصعوبة والمتعة في التأليف أيضاً، لكنني أفضل أسلوب كانتيلون فهو أقرب لما أرنوه في موسيقى الفيلم.
أحياناً تُترك الجمل الحنية الأكثر أناقة في خلفية المشهد لكنها تظل مؤثرة حتى وسط الدراما الطاغية في المشهد ويظهر ذلك في مشهد محاكمة الملكة كاثرين، ففي هذا المشهد يفتح باب لتصاعد التسلسل اللحني بشكل جميل متبوع بتتويج الفتاة (آن) وإعلانها ملكة حيث الأصوات الكورالية التي تلون القاعة وحركة الكاميرا التي تعكس العظمة التي وصلت لها (آن) بعد كل العناء والشر الذي تلبّسها كي تبلغ هذه اللحظة، ثم الموسيقى التي تجمع آن بشقيقها جورج وهي تتوسله كي ينقذها من العذاب الذي ينتظرها لو عرف الملك بفقدانها للجنين!!، موسيقى تمثل (مأساة رومانسية)، فصعوبة الكتابة الموسيقية لمشهد معقد من هذا النوع تكمن في المشاعر المتناقضة التي يمر بها جميع الأطراف بما فيهم وجهة نظر المخرج التي لابد وأن تتضح في بعض الإيماءات التي نلمسها على وجوه الممثلين مما يعكس رؤيته لموقف إنساني مربك مثل هذا.
نهاية الفيلم ليست نهاية سعيدة، بل مليئة بالخذلان، فكانتيلون استطاع أن يحقن بعض المشاهد الملتهبة بجمل موسيقية صغيرة وسط الفيلم عوضاً عن الشكل التقليدي لموسيقى النهايات التي نعرفها في أفلام من هذا النوع.
مؤلف مبهر مع ان سيرته في موسيقى الأفلام قصيرة جداً إلا انه أثبت وبجدارة أنه سيحفر إسمه بثقة في الوسط السينمائي، ومازلت أبحث عن موسيقى الفيلم كي أهديها لأختي التي خرجت من صالة العرض وهي تبحث وتهدد بالكثير إذا لم أحصل لها على موسيقى الفيلم.