بين طيات التاريخ الإنساني الذي أشرف على كتابته الرجال (لو استثنينا المتزوجين منهم طبعاً)، تم تغييب العنصر الأنثوي في هذا التاريخ ودوره المؤثر فيه، الذي ساهم في بناء هذا التاريخ بشكل يستحق تقديراً أكثر مما هو عليه، ومن أكثر الأشياء التي تؤرقني هو غياب المرأة عن التأليف الموسيقي، فلماذا لا يسجل لنا التاريخ أسماءً لنساءٍ كتبن الموسيقى؟ أعرف أن هناك مجموعة كبيرة من المدونات الموسيقية كتبت على أيدي نساء مبدعات، لكن أكثر الناس لا يعلمون! لماذا يقتصر دورها على كونها عازفة لموسيقى الرجل، أو مغنية، وإذا بلغت مكاناً أقرب من الموسيقى أطلق عليها أنها (ملهمة)... نعم هي ذلك كله لكنها مؤلفة أيضاً، وسنتكلم عن ذلك بإسهاب ولكن عندما يكون الجميع جاهزاً لطرحٍ مثل هذا.
حضورها كان يتجاوز التقاليد كما هو في الديانة الهندوسية (وهي تعتبر من أقدم الديانات المعاصرة) هناك حضور طاغٍ للتجسد الأنثوي للإله، وبما أن الهندوسية تختلف عن باقي الديانات السماوية حيث أنها لا تدعو الى البحث عن الخلاص وتطهير النفس، فالنفس (بالنسبة لهم) سليمة ولا تحتاج للخلاص أو الإنقاذ، فقط ما يحتاجه الفرد هو التخلص من الجهل والبحث عن الذات ومعرفتها ودراستها بطريقة تضمن له التميز والرقي!! فقد كان للعنصر الأنثوي تدخلاً كبيراً في بناء هذه الديانة وفي نسج أساطيرها بطريقة تليق بالقوة التي تملكها الأنثى في هذا الكون، والطاقة الكامنة فيها، فابتكر القائمون على تعاليم هذه الديانة إسم (شاكتي) والتي تعني في الهندوسية التجسد الأنثوي للإله وأحياناً يطلق عليها الأم الإلهية، فهي تمثل القوة الإلهية المؤنثة، مع أن بعض المذاهب الهندوسية تعتبرها طاقة إلهية مذكرة أيضاً.
(شاكتي) هي الملهمة
فعندما يقبل مجموعة من الموسيقيين على تأسيس تجربة موسيقية مشتركة ويطلقون عليها إسم ( إستذكار شاكتي) فإنه لابد من تقديم كثير من التضحيات التي تحاكي القرابين الإلهية كي يكونوا جديرين بتجربة غنية جريئة كهذه. فأسماء مثل العازف والمؤلف البريطاني جون مكلوفلن وهو متشبث بآلة الجيتار الكهربائي التي برعت في عزف الجاز والروك، قدم أكثر القرابين ثمناً فقد ترك كل تاريخه في موسيقى الجاز وترك فرقته (ماهفيشنو أوركسترا) التي أسسها بعد اشتغاله مع مايلز ديفيس، حيث أسس له مكاناً وجمهوراً شاسعاً في هذا الحقل الموسيقي وما يسمى بالفيوجن جاز، لكنه ضحى بكل هذا وتخلى عن جمهوره مراهناً أنه سيبدأ من مكان آخر، وهو المكان الذي كانت ملهمته فيه هي (شاكتي) وهنا تظهر الطاقة الأنثوية التي أغوته كي يكتشف ذاتاً أخرى لإمكانياته الموسيقية، بل إكتشافاً للذات الأخرى بالنسبة للكوكب وهي الهند (بما أنه قادم من أوروبا)، ما جعله أكثر المقامرين في هذه التجربة.
أما الإسم الثاني والمكمل لهذه التجربة هو أوستاد زاكير حسين الذي شرّف شمال الهند بطبلته القادمة من المستحيل والذاهبة الى أقاصي الروح، يذهبان معاً بثقة المحاربين وسكينة النساك، مصحوبين بمجموعة من المريدين الذين يحاكونهم
براعة واحترافاً، فهناك (شانكار ماهاديفان) هذا الصوت الحنون والدافئ الذي يحوي الاحتراف الصوتي كله في تنقلاته بين نغمات المقام الهندي في خماسياته وسداسياته أحياناً، أما (أوبالابو سرينيفاس) فقد تميز بين هذه الأسماء بعزفه المبتكر
لآلة الماندولين الكهربائي (آلة وترية من عائلة العود الأوروبي ظهرت في مدينة نابولي الإيطالية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر) حيث استطاع أن يوظف طريقة العزف المسحوب (مستعيناً بأداة يلبسها في إصبعه تساعده على تطويل النغمات) وهو ما تحتاجه الموسيقى الهندية في المقام الأول.
أما اسم (إستذكار شاكتي) فهو مأخوذ عن اسم فرقة (شاكتي) التي أسسها مكلوفلن مع حسين في بداية السبعينيات حيث صاحبهما عازف الماريدانغام (آلة إيقاعية من جنوب الهند) ر. راجهافان، و يصحبهم أيضاً فيكو فيناياكرام عازف الغهاتام (آلة إيقاعية مصنوعة من الفخار تشبه آلاتنا الإيقاعية البحرية)، وأخيراً يكمل هذا المزيج الروحاني عازف الكمان الهندي (لاكشمينارايانان شانكار) هذا العازف الذي اشتغل مع مجموعة كبيرة من المؤلفين العالميين منهم الفرنسي موريس جار والإنجليزي بيتر غابرييل.
في هذا المزيج الموسيقي الذي لبس الثوب الهندوسي مطرزاً بنغمات من جاز أوروبا، اقترح مكلوفلن وحسين مدرسة تقول بأن قوة التأثير تكمن في الأنثى ولنا أن نقدم قرابيننا الإنسانية ونخلع نغماتنا كي نلبس ما تقترحه علينا (شاكتي). تجربة تستحق التوقف عندها والإصغاء لما تفعله الأنثى في الرجل الموسيقي، بعد ذلك لنا أن نتخيل ما تفعله الأنثى في الموسيقى لو وضعت يدها عليها، عندها سنعرف سبب التغييب الذي قام به الرجل لموسيقى تكتبها المرأة!!