قضى الشاعر باول تسيلان انتحاراً في 1970 في نهر السين في باريس قبيل إتمامه الخمسين، وخلّف جسده غافيا على قشرة مائية. أما عشيقته ومواطنته في الشعر انغيبورغ باخمان فالتهمتها النيران التي أتت على شقتها في 1973 على نحو غامض، وهي بعد لم تبلغ السابعة والأربعين.
الغرق والحريق، المياه والنار، البرودة والسخونة، نقيضان استوت بينهما نوبات توتر خلاّق وجنون خصب وتلاطمات نفسانية نالت من الثنائي الشاعر، كلّ في دوره. انصرف تسيلان نحو التهلكة بعدما هزل إدراكه، في حين انغمست باخمان قبل عامين من حادث موتها المأسوي تناجي الغياب في سلسلة روائية طموحة عنوانها "أساليب الموت". لم يتسن لها عمليا سوى ان تنجز أولى نوافذها التي سمّتها "مالينا"، حيث أومأت الى حبيبها تودِعه روحها: "كان (تسيلان) عمري، أحببته أكثر منه... لقد فرغت من حياتي، ها هي توشك على العبور في اتجاه النهر، لتغرق فيه".
طعّم علاقتهما الاهتمام بالآخر وادخار الكلمات بغية وهبها له. تبادل الشاعر الفرنسي من أصول رومانية والشاعرة النمسوية على مدّ عقدين كمّاً من الرسائل. كتب تسيلان الى باخمان في إحداها بتاريخ 1950 "من الصعب تأجيل بعث رسالة". وهذا ما حصل عمليا بعد مرور ما يفوق نصف قرن. كان مقدرا لرسائل الشاعرين البقاء قيد الإغفال الى عام 2023، غير أن ورثتهم توافقوا على إصدارها أخيرا لدى دار "سوركامب فرلاغ" الألمانية العريقة بعنوان "زمن القلب، رسائل انغيبورغ باخمان وباول تسيلان". حشد هؤلاء الورثة التمعن والتأني المطلوبين لتوليف مئتي وثيقة ورسالة وإهداء وبرقية وبطاقة معايدة، هي الأوراق الثبوتية لصلة جمعت صوتين من أبرز الأدباء الجرمانيين، في أعقاب الحرب العالمية الثانية. الحال أنهما تقاسما مغامرة شائكة، زُجّ خلالها الواحد في سياج الآخر، من طريق الدعوة الشعرية والانعطاف الايروسي والانتحاب على حوادث الماضي. الرسائل التي تراوح بين عامي 1948 و1961، مؤثرة وشائقة، تأتي على صورة الدفق العاطفي الذي تملّك شخصين على تناقض. كان هناك روماني لأبوين من ضحايا الهولوكست من جهة، ونمسوية انتمى والدها الى الحزب النازي من جهة ثانية. على الرغم من ذلك، سطّرا معا إحدى أشد قصص الحب اتقادا وتعقيدا في بيئة صحت للتو من كبوة التطرف. الرسائل وصية مؤثرة، تفرد حيزا للتحدث عن معتقل أوشفيتز، مع ما يعني ذلك من إرباكات وأزمات، وترصد اختلافاً في نمطي عيش كل من تسيلان وباخمان. ذلك انه رجل وهي امرأة، وهو كاتب وهي كاتبة. هذه النصوص قرينة كذلك على الصراع لالتئام الصداقة.
عندما لاح شغفهما في أيار 1948 في فيينا، زفت الشابة باخمان "الخبر المجيد" لوالديها معلنة في زهو: "لقد أغرم بي الشاعر السوريالي باول تسيلان!" أما هو فلخّص شعوره ليكتب: "وعيت حين التقيتك انك الشهوانية والروحانية على السواء". كانت باخمان آنذاك طالبة فلسفة في حين كان تسيلان في مرحلة انتقالية بعدما غادر بوخارست من طريق بودابست ووصل الى النمسا، إثر مقتل والديه في معتقل للتعذيب. في إحدى رسائله الى باخمان التي كانت تنجز أطروحة دكتوراه تتمحور على هايدغر، يقوّم تسيلان أعمال الفيلسوف الألماني. يذهب الى اعتبار أخطاء هايدغر أشد إرضاء له من وعي هاينريش بول الألماني الفيديرالي. علما ان باخمان لم تشارك تسيلان تريّثه حيال بول. ذلك انها انضوت منذ أفول الحرب العالمية الثانية في صفوف "مجموعة 47" الأدبية الريادية التي ضمّت الى بول، غونتر غراس الحائز نوبل الآداب وماكس فريش. تكونت العصبة في ميونيخ والتزمت ترميم اللغة الألمانية وآدابها بعدما هشمتها الرقابة النازية. كما عاينت حاجات الحياة الأدبية وقولبتها مع مستلزمات التاريخ.
في باكورة الرسائل التي يضمها الكتاب قصيدة عنوانها "في مصر"، بعث بها تسيلان الى حبيبته احتفاء بعيد ميلادها الثاني والعشرين وأرفقها بإهداء جاء فيه: "الى المتأنية على نحو مذهل". تحوم تلك القصيدة في فلكي العذاب والأرق وكأنها تستشرف النزاعات اللاحقة بين الشاعرين. كتب فيها تسيلان "أُزيّن الغريبة التي تحاذيك في أجمل حلّة/ أزيّنها بالألم، إكراما لراعوث ونعومي...". تدلل فكرة التزيين بالألم، المتكئة على بعد توراتي، على توازن موجع بين طالبة الفلسفة النمسوية التي تتلمس درب الشعر الوعرة، واليهودي المشرد بلا وطن والذي شرع يجتذب انتباه الحلقات الأدبية. رصدت باخمان من خلال تسيلان، قدرتها على الكتابة. غير انهما تروّضا معا على تبنّي الاختلاف. كان لقاؤهما الأول خاطفا، لم يزد على الشهر، واستتبعه فراق. أنتج الانفصال الأول تبادلاً كثيفا ومترددا للرسائل، صارت نبرته رويدا دراماتكية. كان لكل مرحلة في العلاقة وجه وصوت وشجون وآمال ودينامية، فضلاً عن شكل محدد للصمت. ثمة في معظم الرسائل نفس تدميري متقدّم. يتهددها عوز المرأة الى الإحاطة الذي يبدو كأنه هجس. تتحسس باخمان الندوب وتترك نفسها تهيم في الغواية. تقرأ قصائد تسيلان بافتتان وتردّ في رسائلها على سطوته اللغوية، مربَكة، وكأنها تحاكيه. كيف لا وهو سيصير في وقت قياسي شريكا فكريا.
في 1957، تبدلت طبيعة العلاقة بعد مرحلة فتور. في رسالة إلى باخمان امتدح تسيلان شجاعة زوجته جيزيل دو ليسترانج التي اكشتفت للتو ما حدث. غير ان ذلك لم يبدل شيئا في حماسة النمسوية باخمان، والسبب ان تسيلان، بعد تسعة أعوام على لقائهما الأول، بات يعترف بها شاعرة وزميلة وكاتبة متمكنة. يتوقف عند نضجها: "انغيبورغ، انغيبورغ... أنا مشبع منك. بتّ أدرك الآن ماهية قصائدك". في تلك المرحلة كان تسيلان منتشيا تماما ويشعر بالغبطة المستعادة. يستسلم بلا عناء يذكر لباخمان ذهنيا وعاطفيا. غير ان رؤية مؤلفيهما جنبا الى جنب في رفّ مكتبة أحد أصدقائه، ستهزّه عميقا. ستزعزعه فكرة أن تصير باخمان صنوته الأدبية.
أشد الرسائل جدية ولفتا للاهتمام هي تلك التي تعود الى حقبات الانفصال والمرارة والخيبة. يمتنع خلالها الشاعران عن استخدام المصطلحات المتكلفة. ينشد كل منهما وعي الآخر لمنطقه. يحاول تسيلان أن يثبط عزيمة الشابة الطموحة المنخطفة الى النجاح ولا يلبث أن يؤدي ذلك الى تعميق الهوة بينهما. ليس لأن باخمان عاجزة عن تفهّم بؤس تسيلان بعدما جرّح غونتر بلوكنير بمجموعته الشعرية "سياج الخطاب" (1959). فقد تلقّفت تماما ارتيابه من موقف الناقد المرتكز في رأي تسيلان على معاداته للسامية. بيد انها حرصت على تحذيره من فقدان نفسه بسبب اليأس، بدلا من اكتساب المناعة ضد النقد. بدءا من تلك اللحظة، ما عاد يروق لباخمان ان تعتقل نفسها في هيئة الإنسانة المدمرة. تشي إحدى رسائلها بتصميمها المستجد. تسأل تسيلان على نحو مباشر ان يطور معنى لشهرته. تحاججه قائلة انه السبيل الأوحد لكي يواجه اختلاله العقلي والبارانويا التي صار فريستها. كان تسيلان دفاعيا تجاه النقد وفي الوقت عينه شديد التطلب تجاه أصدقائه. في عزّ الحملة التي عرفت بـ "مسألة غول"، أي اتهامه بسرقة الشاعر إيفان غول أدبيا، التقت باخمان مع أدباء آخرين على دعمه في نص مكتوب في صحيفة "نويه فيستفيليشه". غير ان ذلك لم يخفف من وطأة عقدة الاضطهاد التي كانت استبدت به.
في 27 أيلول 1961 أنهت باخمان رسالتها الأهم والختامية الى تسيلان والتي لم تجد طريقها إليه. خانتها الشجاعة قبل أن تخنها قدراتها الجسدية وتتوقف عن غواية الرسائل. يمكن في ذلك النص اقتفاء انهاكها وارتباطها بالكاتب والمسرحي السويسري ماكس فريش. تكتب فيه: "أظن الكارثة الحقيقية كامنة فيك. ترغب دوما في لعب دور الضحية. ينبغي لك تغيير ذلك." يتضح في هذه الرسالة اننا لم نعد إزاء شابة أسرتها لغة تسيلان المشبعة ألما، فقد باتت باخمان مذّاك، شاعرة الخبرة المديدة.
لا تعرج الرسائل على انحدار تسيلان التدريجي، غير انها تظهر عجز المحيطين به عن تحمل نوازعه.
حدث هذا لباخمان ولماكس فريش الذي أوردت رسائله الى تسيلان في الكتاب أيضا، ناهيك بتوثيق رسائل زوجة تسيلان. كرر الشاعر محاولة قتلها في خضم ثورات جنونه، غير ان ذلك لم يثنها عن ولائها له، وإن بعد غيابه. تجنّبت الرسائل الغوص في بعض التفاصيل، ربما بدافع الخفر. في رسائل باخمان الى تسيلان لا يطفو على العلن مرضها وقلقها الغامر وإدمانها الحبوب المهدئة ومعاقرتها الكحول، التي ستقودها الى الإقامة المتكررة في المشفى. في كل حال، "زمن القلب" هو "مراسلة تشخيصية" لحالات نفسانية متشعبة، تغطي ميادين الحب والصداقة والمتوازيات الشعرية، من قبيل استخدام كلمتي "رمل" و"شَعر" كاستعارتين للموت، وتحكي شاعرين تمت أسطرتهما.
عود على بدء. سعت انغيبورغ باخمان في "مالينا"، الى استلهام الرسائل الكثيفة والشاعرية مع تسيلان بعد عقد على توقفها. ضمنت مخطوطة روايتها التي صدرت في 1971 فصلاً سمّته "أسرار أميرة كاغران"، حيّت فيه الشاعر الذي أحبته أكثر من أي شخص آخر. لكنها أشارت أيضا وعلى نحو لا يترك مطرحا للبس أو التأويل، ان ثمة استحالة في إنقاذ العاجز عن إنقاذ نفسه. نضيف، كيف بالحري إن كان رافضا لذلك؟!
رلى راشد
النهار- 22- 9 -2008