بكيت دمعتين، دمعة كبيرة، ولن تجف سريعاً، وستترك أثراً فى الروح والقلب، دمعة على يوسف أبو رية، دمعة عليه، ودمعة أخرى ممزوجة بماء الاستسلام والقبول، ممزوجة بماء الفخر لأنها على محمود أمين العالم. ربما لأن يوسف مات صغيراً، ولم يستوف حقاً واحداً من حقوقه، ربما لأنه يكاد ينتسب إلى الجيل الذي أنتسب إليه وربما لأن بدانته كانت بدانة الطيبة والفطنة مثل بدانة صلاح جاهين، ربما لأنه ظل ريفياً، ظل إذا قابلك فتح لك قلبه، ثم فتح بستان حكاياته، واذا انصرفت أنت أو أنصرف هو، فعلى أمل أن تستكملا معاً النزهة في «البستان» ذات مرة أخرى. ربما لأنه التحق باليواسف الأربعة، وأصبح خامسهم: يوسف ادريس ويوسف السباعي ويوسف جوهر ويوسف حبشي الأشقر، ربما او الأكيد لأنه سيعيش طويلاً في حضن رواياته التي ستبقى. كانت ابتسامة يوسف ريفية وبلا تماس على خلاف الابتسامة المدينية الخالدة على فم محمود أمين العالم، وكانت تحياته حارة حرارة الأخوة الإنسانية وهي أيضاً تختلف عن حرارة الرفقة التنظيمية التي يخصك أولا يخصك بها محمود العالم، أذكر أنه منحها لكمال عبد الحليم ومنعها عن صلاح عبد الصبور، كلهم ماتوا، وكلاهما - يوسف والعالم - مات، يوسف الذي أعطى ولم يأخذ، ومحمود العالم الذي أعطى وأخذ. مات العالم لأنه أنجز كل ما وعد به، ومات يوسف لأن الذين يجب عليهم أن يرعوا الأدباء مشغولون عن صحة الأدباء، بأسفارهم، ومهرجاناتهم، وتفتيشاتهم عن مصالح جديدة.
في معرض الكتاب الماضي كانون الثاني (يناير) 2008 وفي اثناء خروجي من سرايا الناشرين العرب، قابلتهما معاً الناقد المحترم فاروق عبدالقادر، ويوسف أبو رية، قال لي فاروق: أهلاً يا محمد، فتطوع يوسف بالتصحيح، ليس محمد يا أستاذ فاروق أنه عبدالمنعم رمضان. استمر فاروق في كلامه: لماذا لا تتصل بي يا محمد، استمر يوسف في التصحيح، ليس محمد أنه فلان، قلت ليوسف: لا يا يوسف أنا محمد، وافترقنا، في اليوم ذاته. وبعد وقت قليل، صادفت يوسف ثانية، كان بمفرده، وكان يحمل بعض الكتب ويسير بهيئة من ينوي الانصراف من المعرض. قال لي: بيتي قريب، وعرض الذهاب معه، ولما اعتذرت، جلسنا على سور واطئ ممتد، سألته عن الكتب التي اشتراها، فركّز كلامه على كتاب تودوروف «الأدب في خطر». وعقّب بأن كتب التنظير العربية خالية من «البهريز»، هي أعشاب جافة وميتة، ثم سألني فجأة: أيهما أقرب إليك ابنك أم قصيدتك؟ لم أكن أعلم أنه أب لرواياته فقط، قلت له: بصراحة يا يوسف ابني أهم وأقرب، قال: معقول، قلت نعم، لا أعلم الآن هل أجبته الإجابة التي لم يتوقعها، هل آذيته، هل ينبغي أن أحس بالندم، أعرف أنه كان صديقاً لكل الروائيين، لم ألمحه مرة ينافسهم ويخاصمهم.
عندما سافر إلى باريس قبل سنوات قليلة، كنت عائداً منها لتوي، اتصل بي، وأخذ يستفسر عن كل شيء، وكلمني عن اصدقائه، إبراهيم اصلان ومحمد البساطي ومنى أنيس وميرال الطحاوي وآخرين وآخريات، تكلم بمحبة. الموت نقّادٌ، وها هو يختار، أتخيل أننا أمام الموت أشخاص ضعفاء مأمورون بالصدق، لكن ضعفنا يجعلنا مأخوذين بالكذب، لأن الكذب أمام الموت يبدو مثل سياج للحماية من الخوف. موت يوسف ينظفنا من الكذب، لأن صفاته الفاضلة تحمينا من التماس الفضائل الزائفة أو افتعالها. ستبقى من يوسف رواياته، هذه فتنة الفن، يعيش الفنان، ويتوارى أغياره، السياسي والناقد، إلا من شقوا طرقاً جديدة، على أن تكون قادرة، من ناحية لأن تنسب إليهم، وينسبوا اليها، ومن ناحية أخرى لأن تستمر وتتجدد.
دمعتان، الكبيرة على يوسف لأن الحزن عليه هو حزن الفجيعة، والدمعة الأخرى على العالم، لأن الحزن عليه هو حزن الوداع والفراق، حزن النهاية. جائزة واحدة ذهبت إلى يوسف، ذهبت متأخرة، وغير كافية، يوسف الذي لم يعمل سوى كاتب روائي، لم يكن يجيد فنون الدعاية لنفسه، لم يكن يتربص بالنقاد، ولا بأصحاب الأعمدة ولا بالصحافة، كان يصاحبهم لأنه مجبول على الصحبة. يمكن أن يكون حزننا على محمود العالم، حزناً هادئاً، حزن المتأمل والصوفي، لأن العالم حصل على كل شيء أراده، على المريدين والأشياع والأتباع، على الزوجة المثقفة، والابنة النشطة، على مناهضة النظام في أزمنته وأطواره المختلفة، وعلى رغبة النظام الدائمة في أن يكون ضمن تشكيلته، وعلى استجابته الدائمة لتلك الرغبة، صار رئيساً لأغلب مؤسسات النظام والذي يناهضه رئيس مجلس إدارة دار الكاتب العربي، التي هي الآن هيئة الكتاب، رئيس مجلس إدارة مؤسسة «أخبار اليوم» خلفاً لخالد محيي الدين وحتى لا تظن حكومة موسكو السوفياتية أن عبد الناصر يحوّل بصره تجاه الناحية الأخرى، رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة المسرح، رئيساً للجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة، مرشداً روحياً لمؤتمرات عدة نظمتها وزارة الثقافة. حزننا على العالم هادئ وطبيعي، أما يوسف فلم ينل أي شيء، استحق الكثير ولم ينل أي شيء، جاء إلينا من الطبقة المحرومة ولم يفكر قط في الانتساب إلى الطبقة الحارمة.
سلوانا في يوسف لا تحققها إلا كتبه التي لم تعش حياتها الكاملة بعد، والتي ستستمر إلى أمد طويل، سلوانا في محمود العالم أن كتبه قرأها كثيرون، وحفظها كثيرون، وراجعها كثيرون، وحوّلها كثيرون إلى أناجيل وكتب مقدسة، فاستوفت حياتها الكاملة أمام عينيه، واكتفت من الاستمرار في الحياة أمام عينيه، وانسحبت من الحياة أيضاً أمام عينيه. مات العالم مطمئناً، صافح الحياة وصافحته، ثم ودّعها وودعته، ومات يوسف قلقاً، الحياة لم تصاحبه، ظل ينتظرها حتى اختطفه الموت. لم أكتب عن يوسف كلمة قبل موته، كثيرون غيري لم يكتبوا عنه، لم أقل له كلمة، عن رواياته، ولم يكن يسأل، فيما كتبت عن العالم قصيدة تهكمية استمدت حقها في التهكم من سماحته وأريحيته. لم أساجل يوسف، ولم يساجلني كنا نلتقي مثل طرفي صدفة، ونفترق مثل طرفي مصادفة، بينما ساجل العالم كل من سبقوه، ساجل طه حسين والعقاد والتراث العربي والشعر الحديث، ولم يتعفف عن مساجلة من أتوا بعده، وحين مرة ساجلني، آنذاك استمتعت بسجاله، ورفعت رأسي فوق سطح الماء كحيوان لا يريد أن يغرق. كان العالم يتفاءل، ذلك التفاؤل المفترض، التفاؤل الضروري، وكان يوسف يتفاءل تفاؤله الحي، تفاؤله المفاجئ.
رحم الله العالم في سلسلة كتاب صاحب ديوان «أغنية الإنسان»، أذكره تماماً، صدر في سلسلة كتاب «الجمهورية»، وحسم لي شكل الشعر الذي يجب أن أتجنبه. ورحم الله يوسف الذي ظلت آثار الترع تنخر في كبده، بينما هو يفتش عن الأدب الجميل، الذي ظلت روحه الريفية المزروعة في الوجه البحري رقيقة وعذبة، الذي لم استطع أن أشهده مريضاً، لأنني لا أتخيله مريضاً، لا أتخيل ذبول ضحكته، رحم الله يوسف الصديق، الذي ظل صاحبي، الذي نخر موته قلبي، الــذي مــوته لا يريحه ولا يريحنا، ولا يريح أحداً، الذي موته موت عابث.
الحياة
16/01/09