بدأت تتزايد الإشارات الدّالّة على أنّ وسائل الإعلام الثّقافيّ الفرنسية باتت محكومة بأن تتبع الانحدار نفسه الذي تعيشه الحياة السياسيّة الفرنسيّة منذ سنوات في ظلّ حكومة اليمين الحاليّة. إنّ برامج إذاعية وتلفزيّة تُلغى من دون سابق إنذار، ووجوهاً أساسيّة أو تاريخيّة في الإعلام الثقافيّ والممارسة النقديّة والمعرفيّة على شبكات الأثير أو على الشّاشة الصّغيرة تُلفي نفسها مُجبرة على الاحتجاب فجأة. والجوّ الثّقافيّ الفرنسيّ يمور غضباً منذ أيّام ما إن انتشر خبر استغناء إذاعة فرنسا الثّقافيّة France-Culture عن خدمات النّاقدة وعالمة الاجتماع الفرنسيّة المعروفة عالميّاً باسكال كازانوفا Pascale Casanova التي أدارت طيلة عقد ونصف العقد من السّنوات برنامجاً إذاعيّاً متميّزاً حمل على التّوالي أسماء «الخميس الأدبي» فـ «الثّلاثاء الأدبي» فـ «الورشة الأدبيّة». وقد نشرت صحف عديدة عريضة احتجاج وقّعها واحدٌ وثلاثون من أكبر كتّاب فرنسا بينهم الشّعراء ميشال دُغي وجاك روبو وإمانويل هوكار والرّوائيّون بيار ميشون وجان إشنوز (جائزة غونكور 1999) وجان رولان (جائزة ميديسيس 1996) وماري داريوسيك وهيلين سيكسو وباتريك دوفيل والنّقّاد إكزافييه برسان وتيفين ساموايو وجان – باتيست آران.
العريضة
ممّا جاء في عريضة الاحتجاج هذه: «طيلة خمسة عشر عاماً من حياة هذا البرنامج، وعلى امتداد خمسٍ وعشرين سنة من العمل في إذاعة فرنسا الثّقافيّة، أصبح نشاط باسكال كازانوفا الإذاعيّ واحداً من أكثر المواقع الأدبيّة إنعاشاً للفكر ولإرساء فكرة معيّنة عن الأدب. لقد دأبت كازانوفا في برنامجها على جمع كُتّاب ونقّاد وجامعيّين وناشرين وكُتُبيّين ومترجمين تسلّمهم هي ناصية الكلام لإسماع صوتٍ نقديّ حرّ، «نبرةٍ صائبة» بتعبير [(الرّوائيّ الكبير الرّاحل) جوليان غراك. ولا شكّ أنّ كثيرين يأسفون مثلنا لاختفاء هذا الصّوت ويحيّون ألقه ونباهته. إنّنا سنفتقده».
ويضيف موقّعو العريضة: «كانت «الورشة الثّقافيّة» تقترح كلّ أسبوع لا مائدة مستديرة يتربّع حولها عدد من «الشخصيّات» تقول كلٌّ منها «أحبّ» أو «لا أحبّ» وتتبعها بكلمة أو عبارة مقتضبة مبطّنة بروح السّجال، وإنّما فضاءً نقديّاً متطلّباً، ظريفاً، شديد الرّهافة، مارقاً على الأعراف، ومُشرعاً للجدل والتّفكير العميق. فضاء يحمل الفعل الأدبيّ على محمل الجدّ ويسائل حداثته، في مقاربةٍ منفتحة على العالم. ولقد كانت باسكال كازانوفا، التي وضعت كتاباً مهمّاً هو «الجمهوريّة العالميّة للآداب» (منشورات لوسوي، 1999)، مؤهّلة تماماً لإدارة مثل هذا الجدال بصحبة ضيوفها. ولم يكن برنامجها ليكتفي بإذاعة ما هو معروف سلفاً، أي بتكرار ذات الشيء، وإنّما كان يجرؤ على الانزياح والمفاجأة والمُساءلة. برنامج مهموم بتعدّديّة الأشكال والتّجارب الأدبيّة ويجازف بالمراهنة على النّصوص المعاصرة بكلّ تهمّساتها وبكلّ نضالاتها وبكامل دوارها. برنامج عرف أن يكتشف أو يعيد اكتشاف العديد من الكتّاب الفرنسيّين والأجانب الذين غالباً ما يتعرّضون لإهمال وسائل الإعلام الأدبيّ الأخرى. برنامج واظب على رعاية فنٍّ معيّن للحوار وأناقة معيّنة للّغة، وعُنيَ بإعطاء معنى لهذه الكلمة الجميلة، كلمة «نقد»، التي غالباً ما تُختزل إلى مشغلة بسيطة موجّهة لترويج كتاب. هذا كلّه هو ما يصنع النّبرة الخاصّة لهذا الصّوت. وهو ما حرصنا على قوله».
وإلى نشاطها الإذاعيّ الهامّ، عُرفت باسكال كازانوفا بأبحاثها العميقة في النقد الأدبيّ وعِلم اجتماع الأدب، يتصدّرها كتاب ضخم وأساسيّ سبقت الإشارة إليه، عنوانه «الجمهوريّة العالميّة للآداب» La République mondiale des Lettres (éd. du Seuil, Paris, 1999)، حلّلت فيه، مفيدة من فكر عالم الاجتماع الرّاحل بيار بورديو الذي كانت هي ألمع تلامذته، عدم تكافؤ الفرص الثقافية بين الشعوب وتحكُّم عدد من العواصم الأوروبية بحياة النّصوص عبر ما تمنحه لها أو لا تمنحه من فرص الترجمة والانتشار ونيل نظرة نقديّة من الغرب تكون بمثابة تزكية وقبول و«نبالة» مستضافة واستحسان ومباركة. وقد تُرجم الكتاب إلى لغات عديدة، من بينها العربيّة، عبر ترجمة قامت بها أمل الصبّان (منشورات المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002). وكانت قبلذاك قد وضعت تحليلاً عميقاً لمسيرة الكاتب الآيرلنديّ صامويل بيكيت، في كتاب عنوانه «بيكيت صانع التّجريد – تشريح ثورة أدبيّة» Beckett l’abstracteur - Anatomie d’une révolution littéraire (éd. du Seuil, Paris, 1997)، تبين فيه عن أثر الحياة الاجتماعية والثقافية الآيرلندية على الكاتب، وترينا أنّ مقولات ما دُعي بمسرح العبث لا تنطبق عليه ولا تكاد تقارب أسلوبه الخاصّ. وهي تضع منذ سنوات كتاباً ضخماً عن فرانتس كافكا أعلنت أنّها تتبع فيه المنهج ذاته وترينا أثر حياة الأقليّة الناطقة بالألمانية في براغ التي عاش كافكا بين ظهرانيها على عالمه الأدبيّ والخياليّ.
وكان كاتب هذه السّطور قد عرّج في الجانب النظريّ من كتابه «حصّة الغريب – دراسة في ترجمة الشّعر عند العرب»، الذي صدر بالفرنسية في منشورات آكت سود في 2007، وسيصدر قريباً في منشورات الجمل ببيروت في ترجمة عربيّة قام بها أستاذ الفلسفة والأديب المغربيّ محمّد آيت حنّا، نقول عرّج على الصّفحات التي خصّصتها باسكال كازانوفا لمسائل الترجمة في كتابها المذكور أعلاه، «الجمهوريّة العالميّة للآداب». وعلى سبيل التعريف برؤية كازانوفا للترجمة في سياقها العالميّ، ولتوجيه تحيّة تكريم لها في هذه اللّحظة التي تواجه فيها استبعاداً اعتباطيّاً ينمّ عن كره للأدب عندما يتاح له أن يطرح أسئلته الحقيقيّة، نستعير من «حصّة الغريب» الفقرات التالية بصياغة محمّد آيت حنّا.
التّرجمة وسؤال العالميّة
في صفحات تصيب بها في الصّميم سؤال الآثار المترتّبة على التّرجمة، ترينا باسكال كازانوفا كيف أنّ عالَم الكتابة والنشر يمثّل ساحة حرب فعلية، سواء بالنسبة إلى الكتاب المتحدّرين من المستعمَرات السّابقة أو الكتاب الغربيّين أنفسهم، ساحة حرب تضطرّ الكاتب إلى خوض معارك ضارية لكسب المشروعيّة والاعتراف. فبعض عواصم الأدب العالمية، وعلى رأسها باريس متبوعةً بمنافسة لندن ونيويورك وبرلين وبرشلونة، تُلقي ببعض الكتاب في مهاوي الجهل والنّسيان، وترفع آخرين إلى قمم المجد والشّهرة. فغالباً ما لا تكفي الموهبة الأدبية وحدها، وإنّما ينبغي للكاتب أن يُعدِّد علاقاته وأن ينتهج استراتيجية نشرٍ محْكمة. وإنْ حدثَ لكاتب ما أن يشذ عن قواعد اللّعب، مثلما هو الشّأن بالنسبة إلى صامويل بيكيت أو جيمس جويس أو دانيلو كيش، فإنّه سيكون قد حقّق ثورة أدبيّة فعليّة.
وتذهب الباحثة في فصل فرعيّ، عنونتْه بـ: «التّرجمة بما هي واهبٌ لصفة الأدبيّة»، إلى تخليص التّرجمة من صفة الحياد الظاهريّة، فهي ترى فيها أكبر رهان وسلاح بين المتصارعين في ساحة التنافس العالميّة، وشكلاً من أشكال المقاومة داخل الفضاء الأدبيّ العالميّ . ولمزيد من التوضيح تسوق لنا مقارنة بين ترجمات الأعمال القادمة من الأطراف نحو المركز والتّرجمات الذاهبة في المنحى المعاكس، مبيَّنة أنّ اللّغات التي تُعدّ لغات «كبرى» لم تكسب صفتها تلك إلا لأنّها تملك قنوات انتشار واسعة وتستند إلى تراكم ثقافيّ قويّ، بينما تُعدّ اللّغات الأخرى بالمقابل لغات «صغرى» لأنها تنتمي إلى ثقافات «مُعوزة»، لا بل ثقافات مهيمَن عليها، قد تفتقر أحياناً إلى إرث أدبيّ غنيّ. يمثّل الصّنف الأوّل «ترجمة باتجاه الدّاخل» (مفهوم استعارته الكاتبة من غانّ ومينون)، أي أنّ الأمر يتعلق بعملية استيراد، بعملية نقل للرّصيد الأدبيّ قابلة لأن تغني المركز بالآثار الأدبية الكبرى المُنتَجة في الأطراف. أما الصّنف الثاني فيمثِّل (حسب مفهوم مستعار من الكاتبين نفسيهما) ترجمة في اتجاه الخارج، أي عملية تقصد جعل رأس المال الأدبيّ للمركز يتدفّق منتشراً على وجه البسيطة. ومن البيّن بنفسه أنّ الربح الأكبر في الحالتين كلتيهما يُحسب لأدب المركز. غير أنّ الأكثر مدعاة للامتعاض داخل هذا النّسق (وهنا برأينا تكمن قوّة أطروحة كازانوفا) هو أنّ نصّاً آتياً من أحد الأطراف لا يحوز «شهادة العالميّة»، ولا يتمّ قبوله والاعتراف بانتمائه للأدب، إلاّ متى عملَ المركز على ترجمته ونشْره؛ ومن هنا نفهم العبارة «التّرجمة بما هي واهبٌ لصفة الأدبيّةlittérarisation «، فالتّرجمة لا تكتفي بمنح الكاتب شيئاً من الاعتراف الدوليّ وإنما تتجاوز ذلك إلى منح منتوجه نفسه صفة «الأدبيّة». ومن هنا نستطيع أن نتخيّل كلّ أشكال الظّلم الواقعة أو المحتملة، ذلك أنّ كاتباً يعوزه «الحظّ» أو النُّصرة أو الدّهاء أو العلاقات قد يتأخّر في الوصول إلى الشّهرة العالميّة، لا بل قد يظلّ مجهولاً. كما يستطيع كاتب آخر، رفضت ثقافته الأصل تكريسَه، رفضاً قد يكون له ما يبرّره، أن يعود إلى موطنه معزّزاً مكرّماً بفضل عمليّة «إسباغ النّبالة الأدبيّة» التي يقوم بها المركز.
نُنبِّه أخيراً إلى أنّ لفظ «الأطراف» ينبغي أن يؤخذ بالمعنى الأوسع للكلمة، ذلك أنّ الأمر لا يشير إلى كتّاب أفارقة أو عرب أو هنود فحسب، وإنما قد يتعلّق الأمر بكتّاب متحدّرين من السّويد مثل سترندنبرغ أو من إيرلندا كما هو شأن بيكيت وجويس؛ ذلك أنّ المسألة لا تكمن في أن يكون الكاتب مترجَماً إلى الفرنسية أو أن يكتب بها، وإنّما في أن يقتحم مجال الأدب ويستطيع بلوغ صفة الكاتب عبر تبنّي لغةٍ تجسّد الأدب بامتياز، سواء كان ذلك التبنيّ مباشراً أو بتوسّل التّرجمة. وبالنسبة إلى هؤلاء كما بالنسبة إلى أولئك تكمن المسألة في «تحويل النّصوص بحسب اشتراطات المنظوريّة التي تحدّدها الهيآت القادرة على التّكريس».
باريس