لا يكاد شهر ديسمبر/كانون الاول يطل برأسه حتى تطل معه اطياف الشاعر العراقي بدر شاكر السياب وملامحه المواراة منذ اربعة واربعين عاماً عند ضفاف شط العرب. ذلك ان السياب الذي رحل في الثاني عشر من الشهر الأخير من عام 1964 يكاد يحول هذا الشهر بالذات الى مناسبة داعمة لتذكره والعودة الى سيرته المفعمة بالآلام وشعره المرتعش تحت خريف السنين أو شتائها البارد. والحقيقة اننا نحار ونحن نتذكر السياب مما اذا كانت القشعريرة التي تصيبنا في ذكراه ناجمة عن الذكرى نفسها أو عن الرياح الحزينة واللاذعة التي تتشكل في احشاء كانون الأول ثم تهب نحو ارواحنا العارية واللفوفة بأكثر من غصة وترجيع.
منذ اربعة واربعين عاماً والسياب عاجز عن القيام بأي شيء لخدمة شعره وتسويقه والترويج له، ومع ذلك فإن له من قوة الشعر وطزاجته وراهنيته الدائمة ما يعفيه من هذه المهمة وما يجعله يرقد في مثواه قرير العين في تراب عراقه المطعون بأكثر من خنجر. ولطالما تساءل البعض منا عن سر تلك الخلطة السحرية التي تجعل من شعر السياب قادراً بمفرده على اختراق الأزمنة والتواريخ والشتاءات المتعاقبة والنفاذ الى وجدان القارئ العربي حتى اليوم ومشاطرته حزنه وفرحه وشجنه واسئلته المضنية. واذا كانت الاجابة عن مثل هذه التساؤلات غير متاحة في هذه العجالة لأنها تتطلب الكثير من الدأب والتقصي والمعالجة العميقة فإن المرء لن يتردد في الذهاب مباشرة الى الانطباع الأول الذي يتركه شعر السياب في باطن نفسه وهو ان هذا الشعر ملتصق بالحياة الى حد التوحد ومتماثل مع الحقيقة الابداعية القائمة على المغايرة والحرية والمواءمة بين المؤقت والأبدي. فشعر السياب منزرع بقوة في ثرابه المحلي واللغوي ولكنه اذ يتغذى من العناصر نفسها التي تغذى منها الآخرون يعمل كالشجرة المثمرة على تحويل تلك العناصر الأولية الى شيء آخر مغاير ولذيذ الطعم وشهي كالفاكهة الطازجة.
ندر أن نجد في العربية شاعراً مخلصاً لنفسه كما لقضية الشعر كما هو الحال مع السياب. كأن شعره ووطنه وحياته الشخصية اقانيم ثلاثة لحقيقة واحدة أو كأن هذا الثالوث هو بالمعنى الرمزي وجه آخر من وجوه الايمان المسيحي المرفوع فوق صليب الآلام والمعمد بماء الولادة المتجددة في الآن ذاته. ولم يكن من قبيل الصدفة ان تتردد صورة المسيح وتجربته القاسية والفذة في غير قصيدة من قصائد السياب، كما تتردد صور أخرى لأيوب الذي اعيا به الداء، وفق تعبير الشاعر، وبات قناعاً دائماً لوجه السياب المسكون بالعذاب كما بالرجاء “يا رب أيوب قد أعيا به الداء/ في غربة دونما مال ولا سكن/ يدعوك في الدجى/ يدعوك في ظلمات الموت: أعباء/ ناء الفؤاد بها فارحمه إن هتفا/ يا منجياً فلك نوح مزق السدفا/ عني، أعدني إلى داري، إلى وطني”. ليس ثمة في هذا الشعر من فارق يذكر بين الكلمات والشغاف أو بين الإيقاع ودورة الدم أو بين العفوية المحضة التي نلمحها في أدعية الأمهات الجاثمات أمام أسرة أبنائهن المرضى وبين النشيج العفوي “الأنثوي” للسياب الراقد على فراش المرض.
على أن معاناة السياب لم تكن، برغم فرديتها الواضحة، مغلقة على نفسها كالشرنقة ولا منبتة عن هاجس الوطن وروح الجماعة ونداءات الانسانية المعذبة، فهو في أوج مرضه يطلب العودة إلى داره وإلى جذوره الأولى كما لاحظنا في القصيد السابقة أو كما نلاحظ في قصيدته الشهيرة “غريب على الخليج” حيث يتحول العراق إلى دورة أسطوانة شبيهة بدوران الأفلاك حول محورها أو دوران الصوفيين حول نقطة الدائرة الكونية: “بالأمس حين مررت بالمقهى سمعتك يا عراق/ وكنت دورة أسطوانة/ هي دورة الأفلاك من عمري تكور لي زمانه/ في لحظتين من الزمان وإن تكن فقدت مكانة/ هي وجه أمي في الظلام”.. ثمة في هذا الشعر تكور وانحناء على الأهل شبيهان بتكور الجنين وانحنائه على نفسه وسباحته في مياه الرحم. فالحياة كروية كالأرض تماماً وفي شعر السياب ما يؤكد هذه الحقيقة حيث النزوع الدائم للمواءمة بين الأم الحقيقية وبين أمومة الأرض الموزعة بين المهد واللحد.
تبدو الأمومة في شعر السياب، من جهة اخرى، تعويضاً واضحاً عن حاجته الملحة الى الانوثة التي لم يعثر عليها فوق أرض الواقع فحولها الى نسيح لغوي أو الى فضاء بديل من الايقاعات المحدودية والمكسورة. فلم تكن شاعريته الفذة لتعويض لسوء الحظ عن افتقاره الى ا لوسامة الشكلية أو لتغري النساء بالوقوع في حبه. أليس هو من خاطب المرأة الوحيدة التي رضيت بالزواج منه بقوله: “احبيني لأن جميع من احببت قبلك ما احبوني/ولا عطفوا علي”؟ أليس هو من كان يغبط ديوان شعره على حظوته عند النساء فيما صاحبه يرتجف وحيداً من الوحشة والبرد: “يا ليتني أصبحت ديواني/لأفر من صدر الى ثان”؟ وليس من قبيل الصدفة ان يرحل بدر شاكر السياب في كانون الأول بالذات، أي في الشهر الذي يسلم فيه الخريف أمانة الشحوب والعري الداكن والعواصف المقبلة الى خلفه الشتاء. لكنه مع ذلك يسلمه في الوقت نفسه مفتاح الباب الذي يلج منه الشعراء الكبار باتجاه النخيل والابتكار وافتراع الأمل. وهو ما تمتله بامتياز قصيدة السياب الرائعة “انشودة المطر” حيث كل قطرة تنهمر من جهة السماء هي بحسب السياب “حملة توردت على فم الوليد/في عالم الغد الفتي، واهب الحياة”.
الخليج
24 ديسمبر 2008