محمود قرني

حلمي سالممن الخطيئة الأولى ولدت المعرفة، ومن المعرفة.. ولد النص.. ولد حلمي سالم.
ومن الخطيئة الثانية ولد التعدد، ولدت الحياة كما ولد الموت، تستوي في ذلك درجات الوعي بالإثم ودرجات الوعي بالنموذج والمثال.
وحلمي سالم الذي يكتب على غير مثال، صار مثلا.. فحمل في عنقه وزر الخطيئتين. صار نموذجا للنزق، صار آبقا، حاملا لراية الإثم، وسيدا للعصاة.
بالأمس القريب كنا نتلفت على الأثر السبعيني في مرايا محطمة، بالغت في تشويه الوجوه بقدر ما ضاعفت من غلظة السحنة وتثاقل الأطراف، اليوم ونحن نقف على مبعدة من تلك المرايا، أصبح بإمكاننا أن نرى الأحجام والوجوه على حقيقتها، وأن نتأمل كيف خدعنا رفاقنا، وكيف خدعنا أنفسنا.
أذكر أنني طالعت نصا فاتنا في منتصف الثمانينيات بمجلة إبداع لحلمي سالم هو 'تقلب خطة القلب' وهو النص الذي ضمنه حلمي، فيما بعد ديوانه، 'الشغاف والمريمات'.
كان النص في ذيل المجلة، أعني في بابها الشهير 'تجارب'. وكان الباب في حد ذاته يبدو بابا للشيطان، بمعنى أدق بابا للمارقين، حتى لو احتسبه الراحل الجليل عبد القادر القط بابا للاستتابة. كانت استقطابات المجاز وكثافة الشعرية والوعي المتجدد بأغراض الشعر وتطوحات لغته تبدو كلها ـ للوهلة الأولى - كعلم لدني، إلا أننا سرعان ما نكتشف أن الشاعر يملك من الجسارة ما يدفعه لتحطيم قوى النظام، فتتحول اللغة من كونها هيكلا مقدسا وكهنوتيا الى ملكية يتشارك فيها كل صناعها، وهو ما يحول لغة حلمي دائما من أسطورة شخصية الى أسطورة صنعتها التداولية العامة، صنعتها أنفاس العشاق وأنات المسحوقين، صنعها الفلاحون والصيادون وآلام الأنبياء العزل، وطاردتها دائما مجامع اللغة. ربما لذلك بقي القاموس الشعري لحلمي سالم هو الأكثر غرابة وإدهاشا بين كافة الأجيال. ربما لذلك أيضا بقي هذا الوعي قادرا على جعل اللغة ممكنة.
لقد كان بمقدور حلمي سالم دائما أن يمارس حرية تجاوزت أفق الفوضى وقوى النظام الى ما بعدهما، وربما انسحب ذلك على كل مستويات حياته. فلم يأبه بتراتبية المرجعية الجمالية كما لم يأبه بصلف وقسوة المرجعيتين السياسية والعقائدية واستغراقهما في اللجاجة. فبنفس طاقات الصدق التي كتب بها عن عشرات المناضلين، كتب أيضا عن عشرات العشيقات، وهو لا يستحي 'حسب تعبير أمجد ناصر': 'من كتابة قصيدة يذكر فيها أنه يقضي الليل كله، يقيس حوض أنثاه.
هل لهذه الأسباب حذرنا الشيخ يوسف البدري من السموم التي يبثها حلمي سالم في أشعاره؟
أذكر أن الناقدة آن واد منكوفسكي استمعت بدهشة بالغة لفتاة في الجامعة الأردنية تطالب باستئصال أشعار أدونيس باعتبارها تمثل خطرا على الأمة فسألتها السيدة بدورها : كيف يمكن لفتاة في عمرك أن تتحدث بكل هذا اليقين عن أشياء محلها الميتافيزيقا الخالصة ؟! الأمر نفسه فعله الشيخ يوسف البدري عندما تحدث إلينا كمفوض بحراسة الذات العلية، وربما من هنا تأسست قناعته بأن الزج بحلمي سالم في السجن يعد عملا من أعمال البر. لكن حلمي، الأقوى من كل أعدائه، تصرف كما يتصرف بطل أسطوري من مصر القديمة ؛ فقد حفر قبره وأوصى بأن يضع ورثته سيفه وعجلته الحربية كحارس قوي، ليقول لنفسه: أجل إن الحياة صعبة جدا وبقدر ما تحتاج الى هؤلاء المهرجين الذين يتقمصون أدوارا ليس ضروريا أن يتقنوا صنعها تحتاج أيضا لمن يملك القدرة على تصويب الكثير من تلك الأخطاء.
إننا ونحن نحتفي اليوم بحلمي سالم، نحتفي في الحقيقة بالقوة التي لم نتمكن من امتلاكها، بالتشبب الذي لم نعشه، بالشعر الذي لم نكتبه، بالنساء اللائي احتقرناهن ثم بكينا في السر تحت أقدامهن، بالمغامر الذي تمنيناه فينا ثم امتشقنا رباط العنق ووقفنا في صفوف المتأنقين، بالحرية المسكينة التي اختلسها حلمي بخفة يده ولم يترك لأتباعه أثرا يدل، حتي، على ما تبقي من عظامها، نحتفي كذلك بالشيخوخة التي لم تترك أيا من عوارض الحكمة على جبين صاحبها.
إنها خفة حلمي سالم عندما يختطف قصائده، لغته، روغه واحتيالاته على الشعر كما على المحبين، نزقه الذي يظل وعدا واستحقاقا في آن. ربما لذلك أجدني كلما قرأت حلمي سالم أتذكر أشعار الفوضوي الكبير، شاعر جيل الغضب الأمريكي شارل بوكوفسكي، الذي كان يصطاد لغته من أفواه العامة ومن مقاعد الفقراء والمسحوقين وكان ينظر للغة باعتبارها نعالا أنيقة لا يبجلها إلا أنصاف الشعراء. وحلمي الذي لم يقم اعتبار كبيرا لطوطمية اللغة يجد نفسه رفيقا لبوكوفسكي ليس على مستوى قناعاته الجمالية فحسب بل على مستويات سلوكية ربما تفسر لنا تلك المقاربات الغريبة. فبوكوفسكي الذي لم يتورع عن ارتكاب أية حماقة، ولم يتراجع عن مصادقة المحنة، ولم يجد شيئا مستقيما في حياته إلا لوي عنقه، حل، ذات مرة، ضيفا على أهم برنامج تلفزيوني في فرنسا بصحبة عدد من كبار النقاد وبحضور الروائية كاترين بيزان، فشرب كعادته، قبل كل لقاء، زجاجة من النبيذ الأبيض، وعندما بدأت الحلقة لم يترك أحدا إلا سبه ثم جلس يربت بكلتا يديه على مؤخرة الروائية الجميلة، فقطعت القناة بثها على الفور وما كان من الحراس إلا أن ألقوا بالرجل في الشارع، ولكي يخرج مقدم البرنامج من محنته انبرى قائلا لمشاهديه: سيادتي وسادتي: ألا ترون معي أن أمريكا في حالة يرثى لها؟
وحتى لا أقع في المحظور على أن أوضح أنه، ورغم الأمور المشتبهات، ثمة مسافة شاسعة بين الرجلين، فحلمي ليس شتاما بل ربما يعاني من فائض رقته ولين طرفه، كما أنني أبدو واثقا من أنه لا يدس في جيب سترته، وهو بيننا الآن، زجاجة كاملة من النبيذ الأبيض، والأهم من ذلك أن من يجلس الى جواره، على تلك المنصة، ليس بالتأكيد تلك الروائية الجميلة كاترين بيزان. لذلك فليس في مقدوري أن أنظر بعيدا عنه لأقول لكم: سيداتي وسادتي: ألا ترون معي أن مصر في حالة يرثى لها. على العكس تماما أقول لحلمي سالم في النهاية ما قاله عمارة بن عقيل لأبي تمام: يا أبا تمام أمراء الكلام رعية لإحسانك'.. دام لنا حلمي سالم.. دام الشعر ودام النزق.

* شاعر من مصر

*هذه كلمة افتتاحية ألقيت في احتفالية أقامتها حركة شعراء 'قصيدة النثر.. غضب' في نقابة الصحافيين بالقاهرة يومي السادس والسابع من ايار/مايو الجاري.

2012-05-31