في الذكرى الثانية لوفاة الشاعرة نازك الملائكة، ثمة الكثير من الاسئلة! وثمة الكثير من الهواجس، اذ تضعنا ظاهرة كبيرة ك(نازك الملائكة) امام غواية محتدمة لانتاج المزيد من تلك الاسئلة والهواجس الاكثر رعبا..
فهل يمكن ان تنطوي فاعلية القراءة المتجددة للتجربة الرائدة للشاعرة الناقدة نازك الملائكة على مقاربات تضعنا امام لعبة التجاوز على ماتكتبه الذاكرة، وعلى اشاعة نصنا الموروث والمهيمن والطاغي والمقدس، وربما تجاوز ما كرسته القراءات التقليدية لمشروعها الشعري والنقدي؟
وهل يمكن ان نقتنع وان نقنع غيرنا على ان الدائرة الشعرية لنازك الملائكة قد اكتملت، وان القراءات المحايثة لتجربتها هي تجسيد لاستعادة اخلاقية تضع ما انجزته الملائكة في سياقه التاريخي والمعرفي وليس اهمالا لما قدمته هذه الرائدة الكبيرة؟
احسب ان هذه الاسئلة هي الاكثر جدوى في التعاطي مع (الاثر) الذي تركته نازك الملائكة في ملفات عقلنا الثقافي، وان الحديث عن مشروعها ينبغي ان ينطلق من فكرة استعادتها كلحظة ثقافية فارقة في تاريخ تحديث التفكير الشعري والنقدي العربي، ولا تنتهي باعادة قراءة الجهد الكبير الذي تركت أثره في حركة الشعر العربي الحدبث وفي مقدماته النظرية.
نازك الملائكة في هذا السياق التاريخي لما انجزته كانت تقترح فكرا تجريبيا في النظر الى صناعة القصيدة ضمن تطورسياقها الزمني، مثلما كانت تحمل وعيا متجاوزا لمفهوم الشعرية ذاته، والذي عدّه الكثيرون خرقا للقاعدة المكرسة في كتابة(النمط المتداول) والتجاوز على الكثير من مهيمناته وشروطه، اذ وجدت الشاعرة نفسها امام نزوع ثقافي للتمرد والمغامرة والتجاوز على بداهات السائد او اقتحامه بروج لجوجة قلقة نافرة. وطبعا هذه المغامرة لم تكن تعويما في سديم او تهويما في فراغ ثقافي او وجودي، بقدر ما كانت جزءا من معطى تشكلات وعيها المغامر، هذا الوعي المسكون بالاسئلة، تلك الاسئلة التي ترتبط اولا بالطبيعة الشخصية لنازك الملائكة واستعدادها لاجتراح المغامرة والتصريح بها وسط بيئة ثقافية ودينية واجتماعية لم تعتد هذه المغامرات ولاتشرعن لمغامريها غواية المروق على المألوف والمكرس. كما انها ترتبط ثانيا بمجموعة من التحولات الكونية والمحلية، تلك التي اصابت الكثير من الانماط الثقافية والاجتماعية والسياسية بصدمة تغاير حادة وضعت تقاليد انماط الكتابة الشعرية امام اختبارات وقراءات مغايرة.
استعادة قراءة نازك الملائكة يعني استعادة قراءة سياق ثقافي(لغوي وشعري ونفسي) انتج نموذجها وظاهرتها، واسهم في اطلاق مكنونات قوى فاعلة في الجسد الثقافي العراقي والعربي، تلك القوى التي لعبت فيما بعد ادوارا مهمة في انضاج واثراء عوامل المشروع الشعري التحديثي العربي.
فهل كانت نازك الملائكة مشروع ولادة شاعرة جديدة ادركت مآزق القصيدة العربية التقليدية في نهاية الاربعينات، سعت من خلالها الى تجديد اليات اشتغالها وتفكيك الكثير من مغاليقها؟ ام انها كانت صاحبة مشروع نقدي لم يطمئن للدرس النقدي المتداول ولما هو مألوف في النظر الى قراءة مفاهيم النظرية الادبية السائدة والمستقرة؟ ام انها كانت مبشرة رومانسية تمارس طقوسها في الاحتجاج والدعوة الى ممارسة وعي او موقف يحرضنا على التخلى عن كل المألوفات او وجهات النظر السابقة التي تقول عنها نازك الملائكة بانها جعلت(الشعر العربي لم يقف بعد على قدميه، بعد الرقدة الطويلة التي جثمت على صدره طيلة القرون الماضية) 1ديوان نازك الملائكة/المجلد الثاني ص6.
وهل كانت نازك نموذجا متميزا لحيازة(الوعي المزدوج) الشعري والنقدي كما يسميه الدكتور مالك المطلبي والذي يقترح لقرائت ه(مراجعة متأنية للوثائق الشعرية والنقدية التي تركتها نازك الملائكة)كانت تملك قدرا مهما من الوعي النقدي القائم على المعرفة الواسعة باللغة والتراث وكذلك المعرفة بالثقافة الشعرية الانكليزية، فضلا عن امتلاكها الشجاعة والجرأة في الافصاح عن هذا الوعي وتوظيفه في التعاطي مع مشكلات شعرية ولغوية عديدة، ولعل توظيف قصائدها كشواهد في هذه المقاربة دليل على رغبتها الحميمة في حيازة الوعي المزدوج. وبقدر ما أفادت نازك من هذا الوعي في ابراز قدراتها الذاتية في صياغة اطار معين للتلازم بين شعريتها واشتغالها النقدي، فانها اطلقت العنان لصياغة مواقف منفعلة، مسندة الى تراكم كبير من القراءات المفتوحة على الشعرية والتراث واللغة والبنيات العروضية وموسيقى الشعر.
يقول سميح القاسم(نازك الملائكة تركيبة لغوية وشعرية إنسانية فريدة) وهذا التوصيف يضعها دائما امام عاصفة من القراءات، القراءات الباحثة، والكاشفة، تلك التي تبحث في اسرار الريادة اولا، وفي اسرار ما استبطتنه شعريتها من قوى غامضة وسرية، ومن لغة شعرية مكثفة اختلط فيها الغناء بالتامل مع قوة الجملة في مستوياتها الصورية والاستعارية ثانيا. ولعل الاشراقات الاولى في تحديث الشعر العربي وبرغم كل التراك الحادث والعاصف الذي اخذ بتلابيبها، فان خصوصية نازك الملائكة تكمن في قوتها الباثة، المولدة، وليس لانها(المرأة) الوحيدة في فضاء الذكورة الشعرية العربية، واجد ان استعادة نازك الملائكة بعد سنتين على فاتها، واكثر من ستين عاما على ولادة مشروعها الشعري، هو قراءة(أثرها) الشعري والنقدي ليس للمقارنة، او فرضه كايقونة، بقدر ما هو محاولة لضبط النسق المقطوع داخل اشتغالات حداثتنا الشعرية، وترحيل مفاهيم معقدة وغامضة حول الحداثة الشعرية من جهات ومناطق باتت من التعدد والفوضى ما تضع هذا النسق امام اشكالات تخص اصل منهجته واجراءاته.. وفي هذا السياق افترض ان السعي الجاد لقراءة هذا الاثر تنطلق اساسا من عمل الجهات الرسمية والاكاديمية لتأسيس(متحف) ثقافي يضم كل تراث نازك الملائكة المكتوب وغير المكتوب وتكليف اختصاصيين من الاكاديميين والباحثين في الدرس الادبي لمعاينة هذا الاثر التاريخي المهم واثره على تأسياسات التجديد الشعري فيما بعد، بعيدا عن الحساسية ونكران الجميل، والمغلاة التي يطلقها نقاد الصحافة، والذين يتجراون دون حق على محق كل ما انجزنه الملائكة من اثر، او تسقيط احكام نقدية مغالية تستعير مواقف يومية، او مواقف نعرف مرجعياتها خاصة عند بعض النقاد العرب..
في الذكرى الثانية لوفاة الشاعرة والناقدة نازك الملائكة، ندرك خطورة البحث في الدرس التاريخي للشعرية العراقية، واهمية انتاج ما يجعلنا امام فضاء من التحولات التي وضعت هذه الشعرية امام استحقاقات وتأثرات ارتبطت بالتحولات العميقة في الحياة العراقية والعربية، وارتبطت ايضا بتحولات النمط الثقافي ذاته. وهذه الخصوصية التي حازتها التجربة الشعرية لنازك الملائكة لاتخرج في جوهرها عن اشكالات هذه التحولات التي جعلها وعيها الحاد في مقدمة (ابطال) تلك المرحلة..
وقد اعطى النقد العربي الاكاديمي وغيره اهمية استثنائية لما قدمته الملائكة طول عقود، ولا اعغتقد ان ثمة (جفاء) لهذه التجربة على المستوى الاجتماعي والثقافي، فتجربة الملائكة قد اكتملت كاثر، واضحت من العلامات المهمة في تاريخنا الحديث، وان اواخر ايامها وماتعرضت له من مشكلات صحية جعلها ترغب في الاقامة في مصر، لاعلاقة له بتهميش نقدي او نسيان كما عمدت بعض الجهات ان تضخمه على انه مصير باعث للاسى للمثقفين العراقيين، لان نازك الملائكة ظاهرة عراقية وعربية كبيرة ورائدة ولايمكن لاحد تجاوزها، لا على مستوى التاريخ، ولا على مستوى الاثر.. ولعل احتفاء المشهد العراقي الدائم باثرها في التجديد الشعري على مستوى البحث النقدي والشعري، هو دليل على حقيقة هذا الحضور، لكن الحديث الذي يتجاوز حقيقة الاثر، ويضع الظواهر خارج سياقها التاريخي، يفقد الكثير من شروطه النقدية والقيمية، وبالتالي يضع الدرس النقدي مام مقارنات غير موضوعية بين الماضي والحاضر، ولااظن تجربة نازك الملائكة الرائدة تسوغ مثل هذه القراءات (الناقصة) التي تعمد الى الاثارة والغلو والمفارقة..
تجربة الملائكة تظل علامة مهمة، وفيصل مهم بين زمنين، وجراء شعري ونقدي له مايؤسس حوله من تداعيات وقراءات، تحرض على انتاج الجديد دائما، وهذا ما يؤكد تواصل التجارب وانقطاعها في آن، اذ ان ثنائية التواصل والانقطاع هي العلامة الحية على عمق حضور التجارب الكبيرة التي مهدت لعصف ثقافي قلب الطاولة على ما حوله، تامين لسلطة تاريخة طويلة من الانقلابات على الطاولات والامكنة والامزجة.