شعراء القصيدة الحديثة في الخليج أطفال الحكايات وأبناء الذاكرة الراوية، وبهذا هم يمتازون دون غيرهم من شعراء الحداثة العربية في بلادها الأخرى، فهم يعيشون الماضي ليكتبوا حداثتهم، بينما الآخرون يعيشون واقع المدن الجديدة وصراع القرية المدينة، وضياع الإنسان المعاصر في دهاليز المدينة، ودروبها الحزينة،ولهذا فإن القصيدة الخليجية، كلاسيكيةً كانت أم تفعيليةً أم قصيدة نثر، تبدأ من حيث انتهت المدنية البطيئة الخطى في الشرق العربي، في مدن دمشق وبيروت والقاهرة التي رغم هذا الاتجاه عمرانياً إلى شكل مديني مزدحم بكائناته، فإنها لا تزال أقرب إلى قرية كبرى تحتفظ بشجرها وبشرها رهائن تشكّل مسخي غير متحقق لا الآن ولا في الغد القريب، ولا تزال تنظر إلى حاضرها لتزوّد شعراء حداثتها بماء الشعر الذي به يغتسلون لا بمرايا الأمس كما يفعل شعراء الحداثة في الخليج العربي.
وهذا ما تفعله القصيدة الحديثة في الخليج العربي التي تنكتب بحكايات تقع في جدلية الأمس الآن، ربما لما تشهده هذه المنطقة من الوطن العربي من أشكال التغير الطارئ والتحول المتسارع الخطو نحو "عالمية" قصيدتها المفتوحة على المستقبلية، دونما مرور بمرحلة الانتقال البطيء الذي عاشته وتعيشه ذاكرة مدن عربية في بلاد الشام ومصر.
ومن هنا يأتي البناء الشعري على عجل لجدار الممانعة الأخير متسلحاً بالسرد الشفاهي الخبير بمفازات صحراء الذاكرة الحاضرة، والمتمكن من التقاط صور الخليج الدافئ برمله وملحه وظمأ الغواصين وضيق أنفاسهم حدّ الاختناق بالشوق إلى الأهل عند الشاطئ والأبناء الحالمين بموسم صيد عامر بالخير ولا يأتي منه إلا قليل قليل، هذا البناء الشعري لجدار الوقوف الأخير ضد هذا الزحف الغريب على الأرض "الخليجية" قبل أن يحتلها بصور غرائبيته ومدنيته الفائقة الانحدار نحو غايات تناطح السحاب، ولغات لا يفهمها إلا "الكمبيوتر" ولا تكتبها إلا رقمية الحياة وجنون فواتها.
ومن هنا أيضاً يأتي رد الفعل التلقائي لدى شعراء الحداثة في الخليج المتمثل في انطوائهم على ذواتهم القديمة في الحقيقة والمتخيل، وبينهما هذا الكم الكبير من الذكريات الماضوية عن البيت القديم والحياة الهانئة الهادئة رغم شظفها وقلة حيلتها، ليقعوا في مساحة الاغتسال بمراياهم عن هذا الماضي ليستعيد الوجه القديم لمعانه ونصاعة بياضه.
والشاعر البحريني قاسم حداد واحدٌ من هؤلاء الشعراء الخليجيين المتحققين في الصورة الشعرية التي تبني مقامها على انعتاقها من الآن عبر مسارات الأمس، فهو وإن كان معلم حداثة شعرية بامتياز، لا يكتفي ببناء عالمه الشعري من خراب العالم بل من انكسار المرايا التي يرى الشعر الحديث نفسه فيها من خلال الرؤى الهذيانية والذهانية، إذ إنه يقع في الجانب الآخر للمرآة نفسها، سارقاً شكل الأسطورة والزمن الماضي البعيد كشكل أفقي موازٍ لصورة الحاضر الزمني في ذاته الطفلة التي ترى الحاضر ذاكرةً قديمة كأنها الآن ولا تشبهه في شيء، سوى هذا الاعتقاد الميثلوجي القديم عن الأرقام السبعة وقداسة النار قبلاً، أو الشمس التي تشبه الوجه لأهل هذه الأرض المنبسطة الكف في احتمالها لقيامة الشمسي في الأرضي، كما لو أنه اعتقاد الشاعر بالديانة الأولى، والجبلة الإلهية الأولى للإنسان من طين وماء ورمل ونار، يقول الشاعر قاسم حداد في قصيدته "مرآة الاغتسال":
"رأيت خيول النار السبعة تركض في طرق الليل
تجر الشمس الغافلة العينين
رأيت الأطفال المعروقين يطوفون الطرق الحلوة في مدن الليل
يغنون لضوء الشمس المنساب المتدفق عبر أزقة أرض الناس المقهورين".
وما يظهر في هذا النص الشعري لقاسم حداد يقع في اختبار الرؤى الماضوية عبر استدعاء الذكريات "المفكّرة" والواعية، الذكريات التي ترتّب أشياءها بين الأسطورة و الحكاية رغم ما بينهما من فارق شاسع لا يتسع لمفارقة غرابةٍ تخلط بين الأمرين وتحفل بالتناقض المسكوت عنه، فلا الأسطورة تتخذ لها لباس الإقناع في المتخيل الشعري والشعبي على السواء في حيزه الجغرافي في الخليج العربي، ولا الحكايات تتخذ لها شكلاً متخيلاً ينأى بها عن المكان بأسمائه وسمائه وأرضه ووجوهه الواضحة الملامح.
وهذا الأمر تعبير شعري عن مأزق حداثة تنكتب في الخليج بشكل مختلف، ومغاير، وغير متوقع، ومثير للتساؤلات بقدر ما هو مثير للحزن، وباعث عليه، في الحنين إلى الماضي، والتفجع على ما فات منه، والاحتفال به في طقوس سردية وخبرية لا تصل إلى منتهاها البلاغي إذ تقصر عن القول فيه، وتعجز عن الإنصات إلى صوت الشعرية التي تبلغ بالحذف غاياتها البلاغية بين مبتدأ وخبر واسم وصفة، من خيل ونار، وليل وغبار، واقتراب حدّ الواحد، أو اغتراب حدّ التشظي، وهو ما يجعل خيار الحداثة الشعرية في الخليج يقف فاصلاً وفيصلاً بين حدين: حد السرد وحد الغياب، فالحكايات سرد قريب بينما الأسطورة غياب بعيد، وبهما يصبح المشهد أكثر جلاءً كما في المقطع الثاني من النص نفسه للشاعر قاسم حداد، يقول:
"يطرق حزن الشمس نوافذهم
والناس يحنون الغرة بالحب
ويمسح كلٌّ جبهته بالعرق الشمسي الهاطل من أكتاف خيول النار".
النار لأنها التحول الأكبر في مجتمع حداثة شعرية تتشكل في الرمل، والرمل نار الرؤى واشتعال حرارة القلب بما يحمله من الحنين، أداةً لكتابة فوق الرمل لا تُمحى، في ما تعلّمه قاسم ابن حداد من امرئ القيس بن حجر، وبين هذا وذاك خطاب الأنا في الآخر، وصفات الواحد في الصحراء ضدّ العدم، يتوهّم أو يرسم كائنات الرمل لتشرق أكثر بياضاً وامتلاءً بذهب الذكريات وحكايات الأمس بالحنين إليها، هذه الكائنات التي تتقنع بالواحد في مخاطبات أقرب إلى صوفية حداثية تحتمل البكاء على الأحبة والحنين إليهم، والوقوف على الأطلال فوق الرمل الذي تنسجه ريح الجنوب والشمال، يقول قاسم حداد مخاطباً الأنا الشاعر في نصه "مرآة الاغتسال":
"تقدّم مرّغ شفتيك
إغسل بنبيذ الخيل يديك
تعال اقترب امتد".
والشاعر قاسم حداد هو المثال الأوضح في التجربة الشعرية الخليجية والأكثر صدقاً في التعبير عن حداثة شعرية "خليجية" بالغة ومكتملة النضوج ولا تغترب، شأن الحداثة الشعرية عند عرب حوض المتوسط وبلاد الرافدين، فهي حداثة اللحظة الشعرية، المحتفظة بشروط حيزها المكاني المُعطى لها في ذاكرة الرمل، وتحولاتها في وعي استمراريتها وارتباطها بخيط خفي من اللغة المحتفية بالشاعر في ذاته الأخرى عبر المرآة، والمكتفية منه بلسان ناطق، وعراقة اختصرها القول الشعري لأبي نؤاس المقارب بين اللسان الناطق والفم من جهة، وحكاية الأمم من جهة ثانية، فكأن قاسم حداد يستعيد هذه الهذيانية الشعرية التي أنطقت امرأ القيس، وطرفة بن العبد، وأبا نؤاس، والبقية الباقية من شعراء حداثة تحققت في شروطها الزمنية الحاضرة، المرتبطة حكما بماضيها لا المنسلخة عنه، والمشتركة معه بهمِّ الشعر وهيام الموت على شرفة كأس خمرة نورانية نؤاسية أو شفته، يلتذها طرفة "بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبدِ"، وينادمه في شربها الشاعر الحداثي العربي في الخليج لا في الواقع بل في الرؤى الذهنية والشعرية، يقول قاسم حداد:
"تعال فهذا عرق الشمس لديك
إغسل زنديكَ بخمر النار يشبّ الغار على كتفيك
دنوتُ
غمستُ يدي في ذهب الشمس المنسرح المنساب
على أوداج الخيل
حسوتُ نبيذ النار بكفّي
قال كفى".
وهذه الذاكرة تستعيد تفاصيل الأرض والتراب، وتحتفي بالماضي لأنه تماثل زمني موازٍ للحاضر، ومنحفر فيه، ففي عقيدة الحداثة الشعرية في الخليج لا اغتراب عن الحكاية كمفتاح للرؤى الشعرية، ولا استلاب للذات الشاعرة في قضايا غموضها الشعري أو وضوحها التخريبي أو التجريبي، فالآن هو الامتداد، ككف الرمل في تحولات الزمن وذكرياته الضاربة في التاريخ كما في شرايين الأرض وعيون النخيل كشريط ذكريات حافل بها ومحتفل بمفردات مكانه الأصدق في التعبير عن كائناته الحية والجامدة معاً، الذاكرة التي تقول في الواضح ولا تساير المجهول الغرائبي والغريب، كأنها احتفائية الشاعر الحداثي بالوعي الرملي الحي في ذاكرة المكان "الخليجي" والشاعر ابنه، ووعيه، وملمحه الأول في حكاية وجهه المتشكل من صحراء وماء، وذهب وزرقة، وامتداد أفق في الحدّين، شمالاً شرقاً مائياً، أو جنوباً غرباً رملياً، هذا الوجه الذي يستفز الكائن ليقول، ليقرأ في كفّ الرمل مستقبلاً أقرب إلى أمس، كقاسم حداد يقول في نص "ذاكرة الرمل":
"للأرض تاريخها
مثلما للتراب التفاصيل والنخل والذاكرة
من يقرأ الرمل".
والذاكرة في الحداثة الشعرية في الخليج العربي شكل حاضر في الآن ويشبه أناسه، يحكي بلغتهم ويسرق منهم مفرداتهم في السرد حيناً، وفي الشعر أحياناً، تبدأ من امتداد البحر ولا تنتهي في اتساع الصحراء، والضياع مشترك حميم لا يغترب بالشاعر بعيداً عنه لأنه الأقرب إلى ذاته في الذاكرة المحفورة في ملامح الوجه وشكله، بالمشاعر الإنسانية النبيلة، التي تقع في جوهر الشعر ومقام الشاعرية، بالحنين والشوق، والمشاعر التي تكتب الشعر في تجربة الحداثة الشعرية في الخليج العربي، كأقرب شكل من أشكال التجريب القريب من الذات الإنسانية التي تنتمي إلى المكان الخليجي، في هدأة عوالمها الداخلية، كياقوتة قلب تشع بالإشارات السردية لا الأسطورية، وتسبح في بحر من المفردات المرصودة بحكايات الجن والغياب، في الخليج المفتوح للأشرعة والدفة النافرة، تسهر الأرض مفتوحة الأحداق في حراستها الليلية للنسيم في الصبح، مبتلاً بأطياف حكائية تغرق في الرمل، وتنبع من ماء المالح في الخليج العربي، يقول قاسم حداد:
"ما زال في نرجس البحر شوقٌ
وياقوتةُ القلب تغوي الإشارات
فاستنهضوا سرّها
أي بحرٍ يقود السفائن والريح مرصودة للشراع
وللدفة النافرة
للذي جاء للنوم في ليلها
إن للأرض أحداقها الساهرة".
والذاكرة ذاتها، ذاكرة شعراء الخليج العربي، تكتب شكلاً مختلفاً لكل شيء من حولهم، فلا الرمل رمل، وهو تراكم الذهب في التجربة الشعرية العربية التي وجدت حوافزها الأولى في امتداد الصحراء الموازية لهذا الخليج، ولا الجبل جبل، وهو قيامة الواقف في وجه الريح يتمرد على انفصام الهامة عن جسد القتيل ليبرأ من ذنبه، وهو شموخ الطين العالي نحو السماء يناطح سحابها البياض في القصائد، ولا البحر بحر، وهو الملح في الذاكرة، والشرخ في المرآة، وهو بينهما بحر من دمع المسافرين، ورجع أصوات الغواصين بحثاً عن لآلئ القلوب وندوب الحكايات التي ألّفتها الجدات في البيوت في انتظارات الغاب، في نصه "قصيدة البحر" يقول الشاعر قاسم حداد:
"ما زال معتزلاً يموج
وزنبق في عينه
يده ملطخة بماء الوقت
في يده حرير الخيل
بعد دقيقتين عميقتين يطل في كلماتكم
للغصن تاريخ ومرآة وقيل نجومكم حبلت
فلا تتأخروا
ما زال مشدوها وحترقاً
وتصحبه القواقع والمحارات التي شهقت
وسوف
دقيقتان غزيرتان
و آه آه البحر".
والذاكرة وعي انعكاس الذات في مرآة الذات، وحكاية الحكاية للحكاية، صوت الماضي في أذنه ليؤكد حاضره، كما صوت الجبل في مديات الصحراء، الجبل الذي مثّل في كتابات معظم شعراء الحداثة في الخليج العربي حضور المكان الوجهة، والبوصلة، والذاكرة المتحققة شكلاً في أقرب ما يكون إلى وجه الأرض، وكفّ الرمل، غذ يقف الجبل بينهما كصديق وحارس، ومنارة، والجبل جبرٌ وحضور صاخب بالارتفاع، وحدة الرأي والقول، أمام الرمل وذاكرته يبقى الجبل ملاذاً أخيراً، ولو حجراً، يقول الشاعر قاسم حداد في نص "ظلام عليك أيها الجبل":
"نعرف في الحجر ذريعة الطريق
تأخذ أقدامنا بهجة المسافة
وطبيعة السفر
كأن الماء في المنحنى
كأن شجرة الغابة تقويمنا لندرك خاتمة السرد".
ومن ذلك ينبع الاعتقاد بأن الحداثة الشعرية في الخليج العربي هي حداثة "طبيعية" شكلاً ومضموناً، إذ يتحول وعي الاستمرار نحو اتجاه علوي يرقى الجبل كسلم نجاة، أو يتجه نحوه كمنارة للسفن، أو علم هداية ونار الدليل في الليل الغافل عن ملامحه البيضاء.
هي حداثة شعرية يمثلها نص الشاعر قاسم حداد خير تمثيل، بما فيه من اختزال المكان إلى أعلاه، والمفردة إلى اقصاها في المعنى والدلالة، في الارتباط بالماء والرمل والجبل والبحر، ثنائيات أو ثلاثيات التماثل والتضاد، والمفردة المفرغة من مضمونها القديم، لتتخذ شكلاً مخالفاً ومختلفاً جديداً، شكلاً يشبه حكاية الشجرة التي تعلن خاتمة المسافة، في سباق أو مساق، في اتجاه السرد نحو خاتمته لتقول الذاكرة بعده ما تريد أن تقول، وليتسع القول الشعري عند قاسم حداد إلى غاياته النبيلة، كما في شكل "بريد القرى المستباحة بلاغة المدينة تميمتها لتدارك فضيحة التهتك" وكأن الشكل العلوي للجبل هو إسقاط الشجن و"الفوقية" والارتفاع عن هم الرمل في ذاكرته المريضة بحرارة الأيام الغابرة الحافلة بالحنين والأشواق والانتظارات البطيئة التي لا تصل.
هي ذاكرة الرمل في تحولاته المتلازمة وحراك المكان، ووعي استمرارية الذاكرة الأمس المتحققة في الحاضر، في الحجر الواقف مقاوماً الفوات، والموات، والحداثة التي قد تغترب عن واقع ذكرياتها، أو تطلق على "الجبل" نعوتاً شتى، أو أوصافاً لا تليق بما يمثله من حضور محفّز للذاكرة على التحول الإيجابي في اللغة والدلالة، في قول الشاعر قاسم حداد في نصه "ظلام عليك أيها الجبل":
"رعايا نحن
نعقّ عن هيبة الجبل
ونزخرف جسده بمرايا مشروخة".
الخليج - يوليو 2008