أعدت قراءة مقاطع من «كتاب اللاطمانينة» لفرناندو بيسو بتركيز شديد هذه المرة بالموازاة مع «يوميات» فرانز كافكا الذي استوقفني مقطع يتحدث فيه عن الليلة التي قضاها يكتب روايته الشهيرة «القضية» كيف استطاع أن يكتب رواية بذلك الحجم، بتلك الروعة، وبذلك الإتقان في ليلة واحدة من الساعة العاشرة حتى السادسة صباحا، يقول بأنه شعر بتعب جسماني لاحدود له، بان جسده كان يخونه في كل لحظة لكنه اكتشف أن وراء التعب كانت تختفي السعادة او تولد من داخل تلك المعاناة الفيزيولوجية رعشة أخرى تتجاوز حدود الجسدي نفسه، وتجعله يواصل ليخلص إلى القول أن الكتابة هي هذا الإبحار المؤلم في مجاهيل الأدب، أن الأدب يتطلب تضحية من قبيل الاقتراب من الهلاك الجسماني كي نحصل على الثمرة المناسبة والمكافأة الوحيدة هي السعادة الداخلية لا غير.
ترى كيف كان يكتب فرناندو بيسوا؟ إننا أمام شخص يحير الألباب بالفعل يثير الأسئلة تلو الأسئلة، شخصية غامضة دون أن تتعمد الغموض ولكن حياتها كانت على هذا القدر الكبير من الخفاء المدهش، ربما تتطلب الكتابة قدرا مناسبا من الاختفاء، ورفض الظهور، كان بيسوا يعي ما يريد من الكتابة، فافتتانه بالأدب لا حدود له، ومصدر متعته أيضا، التمتع الأليم، كنوع من السادية، إنه الشيزوفريني الوحيد الذي نجح كما يقال عنه أنصاره طبعا، فمن يهب العالم الأدبي أكثر من شخصية كاتبة هو بالتأكيد مريض بداء الانفصام، لكن في التعدد نجح بيسوا في جمع شتاته الداخلي المبعثر، في لملمة الفوضى العنيفة للذات التي لم يكن يريد لها أن تلتئم في صورة واحدة بل تركها على حريتها تفعل ما تشاء وهكذا ولدت الأشياء كنصوص نقرأها اليوم بعد زمن طويل من رحيله بمتعة وخوف.
الاختفاء هل هي مجرد لعبة من طرف الكتاب لتجنب الآخرين، للذهاب إلى مغامراتهم البعيدة والقصية والمؤلمة والمبهجة في الآن ذاته، لا يمكن التأكيد أو النفي، فلا أحد يدري ماذا يدور في عقل الكاتب، فمناطق الشك والظلال هي بالتأكيد أكثر تجليا من مناطق الوضوح والضوء، لكن مع ذلك، يجب القول أن الكاتب يجب أن يتحلى بهذا القدر أو ذاك من الرغبة في تطليق مجالات الشهرة فهي في غالب الأحيان تضر الكاتب أكثر مما تفيده، أنها تدخله في لعبة التقبل الشكلية لمظاهر هو أكثر من يعرف أنها ليست هي الأدب بأي شكل من الأشكال.
لماذا اختار كافكا الكتابة في الليل؟ قد لا يكون السؤال مهما لولا أن اختيار الليل يعني اختيار العزلة، يعني في دلالاته الكثيرة أن الكتابة مرادفة لهذه اللحظة من التوقيت الزمني التي يخلد فيها الجميع للراحة والنوم بينما يستيقظ الكاتب ليدون أشياءه، ليواجه مصيره على الورق، قال بأنه كان معجب من القصة وهي تنكتب وتتطور ليلتها، ولا شيء ظهر له مستحيلا حينها، التعب يزول أو يذهب ويعود، والكاتب ينتصر مع بدايات الضوء الساطع للنهار حينها يعرف كل شيء، يدرك لحظة وصوله للأصل، لقد أنجز مهمته وكفى، إنها لحظة تشبه استعارة المريض التي نجدها عند بروست وهو يصفه وقد داهمه المرض العنيف في فندق غريب لا أحد يعرفه كي يساعده، لا أحد مستيقظ كي يداوى جراحه، أو يسعف مرضه، لاشيء غير أن ينتظر الفجر، خيوطه الأولى لكي يطرق بابه أحد ما فينقذه مما يعانيه.
طوال تلك الليلة المحمومة بقيت أقرأ «يوميات» كافكا، كنت اشعر وأنا أغوص فيها ورقة، ورقة أنني أغوص في مجاهيل عالم كاتب حقيقي، لم يكن هاجس كافكا من يعترف به ككاتب، ومتى يشتهر أمام الجميع، كان ذلك آخر ما يهمه بل ظل يرغب في أن يعترف لنفسه هو بأنه كاتب في كتابته الطويلة والمريرة والجميلة على السواء. كانت الكتابة هي الحياة الحقيقية لمن ترك مخطوطاته دون نشر، دون أن يهتم إن كان صديقه ماكس برود سيحرقها أم ينشرها، لقد كتب لمتعته وإيمانه الداخلي بجدوى الكتابة الحقة، غير ذلك ليس هناك بالفعل ما هو جدير بالاهتمام..
خاص كيكا