يضع الشاعر يده على خده، يسند براحتها رأسه المائل قليلا نحوها. يسند ما في داخل رأسه. وهو كثير من الهوية واللاهوية، من البحث عن الانتماء، والسلام، ولزوم القتال والمقاومة. هو الرأس الذي ملأته السنوات الطويلة بفعل الدكّ. دكّ الهموم بعضها فوق بعض، والكثير الكثير من الحزن والقلق. هذا أقل ما يمكن أن يحويه رأس فرد فلسطيني واحد، فكيف اذا كان شاعرا، وكيف اذا كان شعره أحد وجوه هوية القضية الفلسطينية، ثم كيف إذا كان الشاعر هو محمود درويش؟ أظن أن راحة يده ستشعر بذاك الثقل كله، الذي تحمله.
في الصورة نفسها، الشعر مسرّح، والذقن ناعمة ومحلوقة بهدوء، النظارة نظيفة، خلفها العيون التي هي نوافذ ذاك الرأس المدكوك. نوافذ من النوع الذي يظهر عبرها كل ما في الرأس الى الناظر اليها، ولا يحتاج المرء الى كثير جهد ليعرف ما اختزنته هاتان العينان، وكمية الدموع التي سكبتاها، وما رأتاه خلال تلك السنوات الطويلة والمديدة والمتناسلة تناسلاً من رحم الاضطهاد.
هذه الصورة لمحمود درويش التي اختارها المخرج الفلسطيني نصري حجاج ملصقاً لفيلمه "كما قال الشاعر"، هي الصورة الموضوعة على غلاف مجموعته الشعرية "لا تعتذر عمّا فعلت". وهي التي يبدأ بها الفيلم وينتهي، ولكن بطريقة مختلفة. الكتاب في ماء البحر تلاعبه الامواج، فتروح الصورة تتهادى فوق السطح ومعها الجملة التي تعلوها لا "تعتذر عمّا فعلت"، فتتردد الصورة والجملة معا، حتى يبدو الصوت كأنه يخرج من صورة محمود درويش على متن خرير الامواج مردِّدا "لا تعتذر عمّا فعلت... لا تعتذر عما فعلت".
لحسن الحظ أن هذه الجملة تصلح كي تقال لحيّ وميت. لمحمود درويش الذي كان بيننا جسدا والذي أراده حجاج في فيلمه ان يبقى بيننا بالشعر. فتكون القصائد التي اختارها مخرج الفيلم وكاتبه، المنظار الاول لكيفية إرادته هو نفسه أن يبقى درويش شاعراً بيننا. هذا ما ينطبق على اختيارات كاتب الفيلم للشخصيات التي تقرأ القصائد فيه. فقرّاء القصائد هم امتداد لتنوّع محمود درويش واتصاله الثقافي بثقافات عالمية مختلفة، او اتصال شعره بتلك الثقافات، ومن ضمن هذا الاتصال تحويله القضية الفلسطينية همّاً انسانياً يتلقفه البشر جميعهم بالطريقة التي يريدها لهم الشاعر. الشخصيات القارئة هي نفسها تلعب هذا الدور في الأدب الذي تنتجه خارج الفيلم. هذا ينطبق على كل واحد منها وإن بتفاوت. أي انها شخصيات تمتلك هموما انسانية ليست في الضرورة في مصاف هموم درويش ابن القضية وصاحبها، لكنها تدور في الفلك نفسه. اختيار الشخصيات ليس من قبيل المصادفة او بالقرعة، فحجاج اقتطع من كلفة الفيلم او من مجملها، تكاليف السفر لملاقاة قارئي شعر درويش من أصدقائه الادباء والشعراء، فسافر الى فرنسا للقاء رئيس الوزراء الفرنسي سابقاً دومينيك دوفيلبان في المقهى حيث كان يجلس درويش، ولتصوير غرفة الفندق التي طالما مكث فيها، وسافر الى تنزانيا لملاقاة حائز جائزة نوبل للآداب وولي سوينكا، والى جزر الكناري لملاقاة النوبلي الآخر جوزيه ساراماغو قبل ان تطاله يد القدر قبل أشهر. وسافر الى مدينة سان سباستيان في اسبانيا ليلتقي بالشاعر الاميركي مايكل بالمر، والى تونس لتصوير مسرحها الوطني، والى الاردن لتصوير مسرح جرش، والى مدرج جامعة دمشق...الخ. كان في إمكان مشاهد كثيرة ان تلتقط هنا في لبنان، من قبيل مشهد الحصان المنتفض من الرمال، لكن المخرج كان يقصد أن تكون نكهة المكان اساسية في تصويره، كما هي نكهة أصوات القرّاء في فضاءاتهم، مبرزةً علاقتهم بدرويش وبشعره.
ثم ان حضور درويش الشعري عبر القراءات المختلفة في الفيلم، دعمه حجاج بإخفاء وجهه تماما. جسدياً، لا يحضر درويش البتة في الفيلم، وهذا رهان صعب على المخرج، لكنه رابح. انه ابتعاد عن الكليشيوية والمتوقع، أي ان يكون بطل الفيلم خارج الفيلم في حضوره الجسدي، وان يتحول الشعر نفسه – بنوعه - لأداء دور البطولة. لا يحضر درويش بالجسد لكننا نرى صورته على غلاف كتابه، وفي صورة منزلية وضعتها أمه قرب سريره في غرفته في بيته الفلسطيني، ونراه في لوحة غرافيتي مرسومة على جدار في مدينة رام الله.
الابتعاد عن الكليشيه التشخيصي، لم يمنع نصري حجاج من اللجوء الى الكليشيه الفني في مشهد الاخرس الذي يقرأ قصيدة درويش، "لاعب النرد"، بلغة الصم والبكم، والكليشيه التصويري في مشهد فتيات مدرسة مخيم برج البراجنة وهن يقرأن قصيدة "على هذه الارض ما يستحق الحياة"، والى الكليشيه المباشر في مشهد المرأة التي تنتظر القطار المهجور على صوت محمود درويش قارئاً قصيدة "على محطة قطار سقط عن الخريطة".
في مشهد الاخرس، براعة فنية عالية مدعومة بمغامرة المخرج في اختيار الفكرة وتصويرها وتنفيذها، على وقع قصيدة، فيها كثير من اللهاث والركض والتعب والنزول والصعود، كان محمود درويش نفسه ليتعب وهو يقرأها. مصممة المشهد سينتيا طرابلسي حوّلت صمته لهاثاً.
في المشهد الثاني تردد الفتيات بصوت مرتفع قصيدة يحفظنها غيباً، وهن يؤدّين جملا شعرية على ارض ليست أرضهن، عن أرض لا يعرفنها ولا يعرفن ما اذا كن سيرجعن اليها. صوت الفتيات الصغيرات الحنون والناعم وهنّ يرددن قصيدة بهذه القيمة العاطفية الهائلة، يحرك كمّاً هائلاً من الادرينالين في جسم المشاهد، فبدت الفتيات كما لو أن درويش كتب القصيدة لهن.
المرأة التي تنتظر القطار في محطة قطارات مهجورة، يعلو وجهها حزن فلسطيني، هو الحزن نفسه الذي يعلو وجوه الفلسطينيات الحزينات، بحسب ما روّجته الميديا الثورية. تحمل حقيبة وعكازاً وتضع في اصبعها خاتماً هو علم فلسطين. هذه المرأة في هذا المشهد تعلق في رتابة الانتظار ورتابة المشهد المتكرر حتى يطفح الكيل في الفنون الفلسطينية المعنية بقضية الفلسطينيين الابدية، وتحديدا الجزء الموسوم بحق العودة فيها.
هناك مشاهد أخرى كثيرة في الفيلم تراوح بين هذه الانواع من الكليشيهات، لكنها جميعها تصب في خدمة الفكرة التي ارادها حجاج تحية الى محمود درويش.
في "كما قال الشاعر" جسّد المخرج الفلسطيني نصري حجاج الشعر وجعله بطلا، والشعر بطل خائب في التمثيل، لكنه في هذا الفيلم يبدو مقنعا، كأن روحه هي المستخدمة هذه المرة، ثم يأتي محمود درويش في دور البطولة الثانية.
دوره الذي أداه من خلف الكواليس.
هذا ما قاله الشاعر دائما عن نفسه حين كان لا يزال حيا، وهذا ما أراده أن يكون في كواليس القضية الفلسطينية التي حوّلها واجهة، هذا على رغم انه لم يعتذر عما فعل، وتحديدا عن فعلته الاكثر قسوة، وهي رحيله.
• يعرض الفيلم لمناسبة مرور سنتين على رحيل الشاعر محمود درويش نهار الجمعة في الساعة السادسة مساء في مسرح بيروت- عين المريسة.
النهار
النهار 4 اغسطس 2010