عندما وصلني كتابه الشعري الأخير لم أقرأه. وضعته جانباً. قلت، كأني أخاطب شخصاً وضع الكتاب أمامي وراح ينتظر: لا أحب الكلمات الأخيرة، خصوصاً تلك التي تُجْمَع من الكواليس والباحات الخلفية. ففي أدراج الشعراء، جيوبهم، محافظهم المهترئة، سقط الكثير من الكلمات. أعرف شاعراً كان يدوّن بروقه الخاطفة على علبة سجائره، على فاتورة ماء أو كهرباء، على ورقة يلتقطها من الشارع وهو يمشي بخطى مسرنمة ويدسها في جيوبه. أعرف، أيضاً، أنه كان يرميها عندما يدفع ثيابه الى الغسيل. لأنه لم يجد فيها شيئاً. فالبروق، على ما يبدو، تنطفئ بعد تدوينها على ورقة. لم يكن شاعر الأعراس والمآتم قد مات بعد. كان لا يزال حياً يفكر بنبرة أخرى لأناشيده ومراثيه الذاتية. وكرجل جرَّب الموت من قبل ربما يكون ترك وصية وربما لم يترك. الأخبار أفادت انهم فتحوا بيته بعد موته. وجدوا كلمات على مكتبه، في أدراجه، في الطريق الى المطبخ حيث تفوح رائحة قهوته الشهيرة. ثمة من قال إنه عمله الجديد الذي تركه، طازجاً وناقصاً، ليعود إليه بعد تلك الرحلة التي لم يعد منها. الكتاب الذي وصلني ووضعته جانباً لم يكن له. إنه لشاعر سبقه إلى حيث لا يصل خبر ولا يعود أحد. حدقت طويلاً في غلافه الذي رسمه فنان شهير اعتاد أن يدس كلمات بين ضربات ريشته. ليس العنوان هو الذي ظل يشدني، كمغناطيسٍ خفيٍّ إليه، بل تلك الكلمات الممحوة، تقريباً، التي دسها الفنان في لوحته التموزية. كان هناك ما يشبه عنوان قصيدة. استطعت أن أقرأ، بعد استخدام عدسة مكبرة، كلمات مثل: بيت، مرثية، تلك اللحظة، المياه، مظروف، سركون يهـ.... حاول الفنان أن يمحو الكلمات الأخيرة، خصوصاً، الاسم، ولكن أثراً باقياً منها تمكن قراءته باستخدام عدسة مكبرة فقط. أخيراً.. فتحت الكتاب الذي وضعته جانباً. كنت أعرف لِمَ تحاشيته. فما حاولت تفاديه فيه وجدته هناك. فقد طلع لي بصوته المفرط في التحشرج، بطريقته البطيئة المتضخمة في القراءة، بوقفاته عند كلمات بعينها، بنحنحاته التي يجلو فيها حنجرة عشش فيها النيكوتين، بهزة رأسه التي تعطي معنى اضافيا لمفردته الأثيرة، الملحاحة الغامرة: الطوفان.
***
من يقرأ كتابه الأخير يعرف أن الشاعر هو العظمة التي تلوِّح بها يد المصائر لذلك الذي يقعي صامتاً في عطفة مظلمة. العظمة الأخرى التي تُرمى لذلك الذي لا يكفُّ عن جرد اللحم الباقي على ساق، أو طقطقة الغضروف والترقوة. إنه ليس كلباً تماماً. قد يتخذ شكل كلب أو ذئب، غير أنه ليس كلباً أو ذئباً. إنه أفظع من كلب. أكثر دهاء وصبراً من ذئب. إنه لا يمل من الانتظار. بوسعه أن يسمع دبيب نملة في الربع الخالي أو رفيف جناح فراشة في غابات الأمازون. كان الكتاب ماثلاً للطبع'عندما اقتربت أنفاس ذلك الذي يقعي في عطفة مظلمة واشتدت رائحة نبات يوضع، عادة، في الكفن. كان يكفي يوم اضافي واحد أو اسبوع أو شهر وتنشر ألواح هذه الوصية على الملأ. نحن الذين نعرف بعضاً من حياته نعلم أن الكتاب كان جاهزاً قبل رحيله.
هو بطبعه كسول خصوصاً في دفع القصيدة، مثل الحياة، إلى حيث لا تمكن استعادتها مرة أخرى إلى حبر جفَّ، أو مياه تبخرت. نعرف أن لديه كيساً من الشِّعر. رأيت مرة هذا الكيس في لندن. ولعله رافقه حيث حلَّ. العنوان عنوانه. ضربة خاطفة كهذه لا تأتي إلا من يد فران الكلمات البطيئة ولكن الكلمات التي لا تُردّ إلى حبرها مرة أخرى. لم يكن الكتاب جمعاً مُلفَّقاً لكلمات سقطت في جيبه أو حقيبة مهترئة. لم يكن من الكواليس أو الباحة الخلفية التي يعثر فيها متسقطو الكلمات الأخيرة على نقود مسحوبة من التداول. كان كتابه الأخير. الكتاب الذي لن'يكتب كتاباً بعده. تراءى لي أن هناك خطأ أو تفاؤلاً ساذجاً، وربما مقصوداً في العنوان. يمكن، ببساطة، استبدال كلمة اأخرىب بـ اأخيرةب. عظمة أخيرة لكلب القبيلة! هكذا صرت أقرأ العنوان. طبعا إنه أكثر من عظمة. ثمة الكثير من اللحم والدم والنخاع والمورثات ورسائل الأعصاب التائهة على تلك الساق التي رميت أو تلك الذراع التي قدمت قرباناً إلى من يقعي صامتاً في عطفة مظلمة. إنه كتاب وداعيٌّ. شاعر طاف بكل ما عرف واستذكره وقال له: وداعاً. لن نلتقي بعد الآن. يمكن أن يكون كتاب الأشياء التي بقيت بعد الطوفان. هناك رسائل تصل ولا تقرأ.
هناك مظاريف توضع على المائدة ولا تفتح. هناك طيور مشؤومة تنعق وأخرى تدل على الطريق. ثمة رجل مصاب بالقلب يدرب تلك المضغة الكسولة على قليل من العمل. كل ما كتبه من قبل أعاد كتابته من جديد. كل ما عرفه استذكره. كل ما رغبه ولم ينله استعاد طعم مرارته، أو حلاوته المتوهمة مرة أخيرة. هكذا يكتب الشاعر كتابه الأخير. كتابه الذي يقول لا تبحثوا عن كلماتي المتساقطة في جيوب ثيابي التي لا أعرف لمن تم التبرع بها. إنسوا الكيس الذي رأيتموني أنقله معي، أنا حمَّال الكلمات البطيئة، أينما حللت. هذه الكلمات التي تقرأونها الآن هي آخر ما رأيت. صدقوني أيها الناجون من الطوفان أو المقبلون عليه بعيون مفتوحة. صدقوا الطائر الذي لا يعرف أين يحط. افتحوا المظروف الذي يرمي به إليكم. أعرف أنكم لن تفعلوا. فأنا أيضا لم أفتحه.
04/12/2008