- 1 -
للذين لا ترضيهم النماذج الجادة من القصيدة الأجد والموسومة بقصيدة النثر أقول: على مهلكم قبل ان ترفضوا هذا النوع من الإبداع الشعري, حاولوا ان تقتربوا منه وأن تتفهموا - ولا أقول تتمثلوا - دلالاته المعبأة بما لم تعتادوا من أساليب التعبير, فالقصيدة في هذا النوع من الإبداع لم تعد تعتمد المفردة المنتقاة ولا الصور الفنية المكررة, كما لم تعد إيقاعا عالياً بل همساً شجياً بين ذات الشاعر وذات القارئ ربما لأن الواقع المملوء حتى التخمة بالأصوات العالية لم يعد قادراً على استقبال المزيد من هذه الأصوات من طريق الفن والأدب. وقبل ذلك وبعده فإن القصيدة لم تعد راضية كل الرضا ولا بعض الرضا في أن تقدم نفسها من خلال دلالة واحدة بعد ان اتسعت لدلالات متعددة وازدحمت بمعان وثقافات وإشارات لم يكن للقصيدة العربية - الى وقت قريب - عهد بها.
والمجموعة الجديدة (مجرد مرآة مستلقية) للشاعرة سعدية مفرح نموذج متميز لهذا النوع من الشعر الجاد الذي تخفف من الإيقاع العالي والمباشر, فقد اختارت الشاعرة لقصائدها أسلوب الهمس والمفاجأة, وقصيدة واحدة من مجموعتها الجديدة كفيلة بأن تنقلنا في لحظات من منطقة اللامبالاة والنظر في سطح الأشياء الى حالة من التأمل والاستعداد في البحث عن مكنون الأعماق الغائبة للأشياء التي سئمنا الوقوف عند سطحها من دون جدوى ومن دون ان تقول لنا شيئاً أو نقول لها نحن شيئاً نتمكن به من خلق مسافة مشتركة من تبادل المعاني والاستبصار بما تخبئه من أسرار وتحتفظ به من الأسئلة الدقيقة والإجابات المثيرة للقلق:
نرحل...
ممتنين لطول الطريق ووحشته الإضافية
نغني قبل الوصول النهائي أغاني البقاء الذليل
في البيوت التي لا أبواب لها ولا نوافذ ولا حدائق ولا حتى
عناوين واضحة.
نرحل... إذن... لا نلوي سوى على غصة موزعة بغير عدل بيننا
وبين الذين بقوا.
هذا هو الجزء الأول من نص طويل يتألف من عشرة أجزاء وعنوانه (غيابات مأهولة بالموت) ولكل جزء عنوانه الخاص, عنوان هذا الجزء (غياب مشترك) يتساوى عنده الراحلون والمقيمون. لا أحد يدري لماذا رحل ولا الى أين هو ذاهب, مدخل موحش ولذيذ وحيرة لا تصنعها المفردات ولا الصور المتشابكة على مدى ثمانية سطور يشد بعضها بعضاً في انسجام وتداع مضبوط. سأترك الغياب الثاني وهو بعنوان (غياب لحوح) لكي أتوقف عند الغياب الثالث وهذا هو عنوانه الرقمي والكتابي:
ما الذي يمكن ان يحدث إن قرر الوطن أن يغيب?!
من الذي سوف يعترض أو يتنامى بين السموات والأرض?
وكيف ستبدو الذاكرة ان تخلت عن أورامها الحميدة عبر
جراحة ضرورية?
?!?!??
الشجر وحده يملك الإجابة الصحيحة
لكنه أيضاً يملك الدموع
مثلنا... لحسن الحظ.
لكل عصر بلاغته. هذه هي الحقيقة الأولى التي يؤكدها هذا النوع من الشعر الذي تقوم بلاغته على العلاقة الدقيقة والمضمرة بين النص وصاحبه والنص وقارئه, وهي بلاغة لا تخضع لمراسم استعارية, وأفضل وصف لها بأنها عزف منفرد باللغة عبر صيرورة المعنى. ولعلامات الاستفهام فيها كما لعلامات التعجب دور يتجلى في مساحات الفراغ أو البياض. ان وفاء الشاعر أو الشاعرة للنص الجديد لا يقف - كما سبقت الإشارة - عند الموسيقى العالية ولا عند اللغة الجزلة الفضفاضة, وإنما لما يتراكم بين السطور من تأملات مترعة بالحنين الجارف الى اختراق المألوف والاشتباك الحاد مع كل ما يؤرق الإنسان من هموم وأوجاع وهو ما حفلت به مجموعة الشاعرة سعدية مفرح وعبرت عنه بنجاح فائق. وفي الجزء الثاني من هذه القراءة محاولة للإمساك بأطراف ذلك النجاح.
- 2 -
كما يختلف الشعراء في رؤيتهم للأشياء وفي الاقتراب أو الابتعاد عن ظلالها. تختلف القراءات لشعر هؤلاء الشعراء وتأخذ مسالك شتى في التأويل والاستقراء, وغالباً ما يحدث التصادم أو التضاد بين قارئ وآخر تجاه نص واحد, هذا يرتفع به الى السماء والآخر يهبط به الى ما دون الأرض.
ولا نريد في هذه القراءة العجلى لمجموعة الشاعرة سعدية مفرح أن نتجاوز ما هو موجود من أشكال قراءة النصوص الشعرية الحديثة, وفي رأيي أن المجموعة حققت نجاحات غير محدودة بما حملته نصوصها من إيحاءات وإيماءات محورية في بناء القصيدة الأجد والموسومة بقصيدة النثر, وأولى هذه النجاحات يتجلى في ان ابتعاد الشاعرة العفوي وغير القصدي عن الإيقاع الظاهر لم يفقد قصيدتها شيئاً من عناصر الشعرية فقد استعاضت عن الإيقاع بشيء آخر هو هذه السردية المتناغمة التي تجعل القارئ يشعر ان قصائدها مغمورة بموسيقى خاصة تتصاعد من بين السطور وتعزفها الحروف والكلمات:
وابل الشعر يغمر عشب الحقيقة أحياناً
لكنه يروي قلبها بفيض المحبة والهدوء
وابل الشعر له ضفائرها الخبيثة
وأسرار بعيدة تمتطي أفراسها كلما توغلت بالبكاء
وفتحت آخر صناديقها السحرية
تحت الرايات البيض الملوحة بالموت والحرية وأشياء أخرى.
الذين كانوا الى وقت قريب - ينكرون ما سماه النقد الحديث بالموسيقى الداخلية أصبحوا يؤمنون بوجود مثل هذه الموسيقى ربما بعد ان تعبت آذانهم وأرواحهم من دقات القوافي والإيقاع الصارخ, وهم الآن على استعداد لأن يتقبلوا هذه النصوص بقلوب مفتوحة بشرط ان يتوافر لها هذا القدر من الوضوح الغامض أو الغموض الواضح:
عندما تهترئ ثياب السماء اليومية في الليل
تهوي الأرض عبر ثقوب الأثواب
بعضاً من جسدها المخبوء
نجوماً متلألئة!
ماذا تهديها الأرض
عندما تهترئ ثيابها اليومية في الليل
غير دموع بشرية?!
الشعر تشكيل فني, عمارة باللغة, كتابة تتجاوز آفاقها المرسومة سلفاً, والشعر لن يكون كذلك إلا إذا وصل بمغامراته الى أقصى حدودها اللاممكنة, وسعدية مفرح وجيلها من شعراء الموجة الأجد يدركون مهمتهم جيداً. وفي يقيني أنها نجحت وان أفراداً قليلين من جيلها نجحوا في تجاوز النثريات القديمة التي نشأت في ظل الترجمات فكانت جزءاً منها أو صورة مكرورة لتلك الترجمات التي عجزت عن تمثل حالتنا الإبداعية أو التعبير عن تنامي التنافر والغموض في حياتنا نحن. وأزعم - انطلاقاً من هذه الإنجازات الناجحة - انه صار للقصيدة العربية الأجد شكلها وفوضاها المنتظمة وصارت - حتى بالنسبة الى أولئك الذين كانوا يقاومونها - تمتلك قدراً من المعقولية الشعرية. ولم يعد السؤل شبه الموضوعي والجارح الذي كان يرتفع كلما قرأ أحدهم نصاً: ماذا يريد هذا النص أن يقول?
وأزعم ان من سيقرأ النصين السابقين لا يمكن ان يتساءل: ما الذي أرادت الشاعرة ان تقول من خلالهما, إلا إذا كان قارئاً يعاني من أمية في فهم الشعر. لقد أرهق النقاد القدامى والمعاصرون أنفسهم في التأكيد على حقيقة لم تصبح مفهومة بعد بما فيه الكفاية وهي ضرورة إخراج الشعر من دائرة الخطاب المباشر والوعظ الممل لما في ذلك من إساءة الى القارئ وإساءة الظن بوعيه وبقدرته على سبر غور الإبداع الجديد الذي تمثل تجربة الشاعرة سعدية مفرح جزءاً من عطائه الشعري.
جريدة (الحياة)
(1/8/2002 )