سيرغي يَسينين (1897 - 1925)، هذا الشاعر القادم من أعماق الريف المسيحي الروسي، ذو الموهبة الشعرية المجبولة من هواء القرية الصافي من كل شوائب التغييرات المدينية، ما إن اندلعت ثورة شباط الديموقراطية بقيادة المناشفة عام 1917، حتى رأى فيها حدثاً مكتوباً حسب «الكتاب المقدّس»: «في المِذْود الريفي شعلةٌ ولدتْ/ جالبةً السلام إلى العالم كلّه!/ الناصرة الجديدة تتمدّد أمامكم/ ويبارك الرعاةُ الآن صباحَها». كان آنذاك، في العشرين من عمره، وعضواً في الحزب الاشتراكي الثوري بمدينة بطرسبورغ. وكان بهذه المشاعر التي تنمّ عن إيمان مسيحي قروي، يتصوّر المستقبلَ الروسي جنّة من الفلاحين، هادئة ينعم عالمُها برغد العيش والهدوء الكوني... وعندما جاءت ثورة أكتوبر، تضاعفت طوباويته وخصوصاً أحلامه بأن يلعب الفلاحون دوراً رئيساً في «أحداث كهذه التي لا تحدث إلا مرّة واحدة كلَّ ثلاثة قرون»... طفق يكتب مطوّلات شعرية ثورية بنبرة رمزية مسيحية غامضة، لكنه ندم في ما بعد على كتابتها «لأن كان فيها الكثير من التصوّف»، كما قال هو. وعندما انتقلت الحكومة السوفياتية من بطرسبورغ عام 1918، إلى موسكو، قرّر هو أيضاً مغادرة بطرسبورغ التي بنى فيها مجداً صغيراً، ليعيش في موسكو التي سبق أن عاش فيها ما بين 1912 و1915، غير دارٍ أن مصيراً بلشفياً سيرسم المستقبل الروسي حيث الإلحاد هو الرؤيا، والقوة التاريخية لبناء الاشتراكية هي عمّال مصانع المدن، لا الفلاحون.
هنا في «موسكو المقاهي»، كما سمَّى أحد دواوينه، راح يُمضي معظم لياليه في شرب كمّيات كبيرة من الخمر، برفقة السكارى والعاهرات، متنقلاً من «مقهى الشعراء» إلى مقهى «مربط الجواد بيغاس». شعر بتغيّرات عميقة في وجدانه الشعري، مما جعله يعيد النظر في تعاليم أستاذه الشاعر كلوييف المسيحية، ويتخلّى عن ريفيته الطوباوية التي بدأ يشعر بسببها، بدونية في موسكو. وكي يعبّر عن مواكبته الحقيقية للمشروع الثوري الملحد، راح يكتب تجديفات شعرية. فنحت، مثلاً، من كلمة «inoj» (غَيْر) اسماً «inoija» (غَيرَ ذلك)، لبلد، ووضعه عنواناً لقصيدة تجديفيّة مكوّنة من أربعة أقسام، ترفض الإرادة الإلهية، وتسخر من الرموز الدينية: «لن يُخيفني الهلاك، ولا السيوف ولا أسهم المطر/ هكذا تكلّم، وفقاً للكتاب المقدّس/ النبي سيرغي يسينين/... سأبصق من فمي جسد المسيح/ لا أريد الخلاص/ من خلال عذابه والصليب/ سأقلع لحية الرب، بأسناني/ سأمسكه من عرفه الأبيض/ وسأقول له بصوت عاصف/ سأغيّرك، أيها الرب، فلعلّ حقل كلماتي ينضج». وقد أثارت هذه القصيدة ضجّة ضدّه، واعتباراً منها أُطلق عليه لقب «khuligana» (أزعر) وفي الإنكليزية «hooligan». وقد كتب في قصيدة «الأزعر»: «أيتها الريح، ابصقي نثار أوراقك/ فأنا مثلك أزعر». وطابت له بالفعل تسمية «أزعر»، ووجد فيها وسيلة ليحقق حلمه بأنه «أفضل شاعر في روسيا» كما ذكر في قصيدته «اعتراف أزعر». وها في كل قراءة له نسمع الجمهور يصرخ برضا: «أزعر، أزعر...»، وصدى فضائحه تملأ صفحات الجرائد... وحسب مارينغوف فإن يسينين «أدرك برزانة وبرود أن الزعرنة هي طريقه إلى الشهرة، واعتباراً من 1919، لبّى ما كان يطلب منه الجمهور»... وكنموذج على سلوكه، كأزعر، قام بكسر أيقونتَين مصنوعتَين من الخشب وألقى بهما في النار لإعداد الشاي. وقد لام مارينغوف النقاد على دفعهم يسينين إلى أن يتصرّف كأزعر سلوكاً وفكراً. وكان البوليس غالباً ما يوقفونه وسرعان ما يطلقون سراحه - إذ كانوا دائماً يشعرون بتعاطف معه - وعندما يسأله الشرطي: «من تظن نفسك؟»، يجيبه: «أنا يسنين، روسيها كلها تعرفني». وفي إحدى المسوّدات التي كان يكتبها عن نفسه، كتب: «في مطلع 1918 أصبح لديَّ شعور جازم بأن الصلة مع العالم القديم قد انقطعت، فكتبت قصيدة «أنونيا» التي هوجمت بعنف، وبالتالي أصبح لقب «أزعر» مرتبطاً بي». ومما زاد من صورته كأزعر، أنه أخذ يتأنّق بمظهره الداندي: قبّعة طويلة سوداء، قفازان ناعمان، وحذاء من جلد لمّاع، لا يهمُّه «إذا كان يبدو مستهتراً/ يتدلّى مصباح من مؤخّرته» ويصرخ: «بي رغبة حادة في أن أبول/ من النافذة على القمر»! ناهيك عن عربدة السُّكر التي كان يعيشها كل يوم، وفي الليل يخرج مع أصدقائه ليكتب على حيطان الكنائس أشعاراً تجديفية: «في روسيا عندما لا يعود هناك ورق، أطبع أشعاري وأشعار كوسيلوف ومارينغوف على حيطان كنيسة العذاب في موسكو، أو مجرّد أقرأها في الشوارع. إن أفضل المعجبين بنا هم العاهرات وقطاّع الطرق. ونحن أصدقاؤهم الحميميون. الشيوعيون لا يحبّوننا بسبب سوء تفاهم». وبالفعل كما يذكر صديقه إيفان ستارتسيف، كتب أبياتاً عديدة أثارت سخطاً كبيراً ضدّه، منها: «انظر إلى الفخذَين المكتنزتَين/ لهذا الحائط الفاحش،/ حيث، ليلاً، تنزع الراهبات/ كَلْسون المسيح».
وفي خضمّ هذه الظروف، انكبَّ على إنجاز دراسة نظرية هي الوحيدة عنوانها: «مفاتيح مريم»، ومريم هنا تدل، كما أوضح في ملاحظة، «على النفس في لغة طائفة دينية معيّنة». تتناول دراسته التزويق وأهميته في الكتابة الشعرية، ثم يحاول أن يبرهن على أن الأبجدية الروسية تكشف عن أسرار تصوّفية عبر رموز حروفها. ثم يتحوّل إلى موضوع صور المعاني... فالصورة بالنسبة إليه هي جوهر الخلق. كما الإنسان، فهي مكوّنة من ثلاثة أجزاء: النفس، البدن، والذكاء. ويُسمِّي صورة البدن بالموصّلة، والنفس بَحريّة، وصورة الذكاء ملائكية. ويقول إن «الخلق الحقيقي يبدأ بصورة ملائكية. فما إن تُكسَر نافذة من خلال صورة موصّلة أو بَحرية، حتى تتكوّن صور جديدة لا تعود في حاجة إلى مقارنة مباشرة. فكل الأساطير، يقول يسينين، قامت على هذه الصورة «الملائكية». وبالتالي يصبُّ جام غضبه على كتّاب البروليتاريا الذين يريدون فناً بروليتارياً. فيرد عليهم قائلاً: «إن ظلال رجال بلا عقل، لم يولدوا لما يحمله الإصغاء إلى الشمس الموجودة فينا من سرّ مقدّس، تحاول إخماد كل صوت ينطلق من القلب إلى العقل، لذا يجب محاربتها بلا رحمة كما نحارب العالم القديم». على أن يسينين يتفق مع كتاب البروليتاريا في نقطة واحدة ألا وهي «أنه يجب خلق أشكال فنية أخرى في العالم الثوري الجديد. لكن الفن القديم سيختفي مع المجتمع الرأسمالي. وبالتالي فإن فناً جديدا ًسينهض، بوسائل تعبير جديدة. وهذا التغيّر سيحدث في واقع الفن من دون أي مساعدة من الخارج. لذا فإن أيدي الوصاية الماركسية تبدو مقزّزة عندما تلمس أيديولوجية جوهر الفن. فهذه الوصاية، مستخدمةً أيدي العمّال، تبني تمثالاً لماركس، لكن الفلاحين يريدون بناء تمثال للبقرة»! وكان يسنين يميل كثيراً إلى تروتسكي، بل حتى إلى نيستور ماخنو؛ قائد انتفاضة كرونشتاد الفلاحية التي قمعها الحزب البلشفي، وتروتسكي بدوره كان يتابع عن كثب كتابات يسينين وأخباره ويدافع عنه كما دافع عن مايكوفسكي، أمام احتجاج كتّاب البروليتاريا، فكتب عنه قائلاً: «يتباهى يسينين بكونه مشاغباً وأزعرَ. والحق يقال، إن شقاوته، وحتى «اعترافه» المحض أدبي، لا تُفزع. لكن مما لاشك فيه، هو أن يسينين قد عكس الروح الثورية وما قبل الثورية للشبيبة الفلاحية التي قد دفعها تدمير بنية القرية إلى الشغب والطيش...».
هناك مَن يعتبر «مفاتيح مريم»، التي كُتبت عام 1918 ونُشرت عام 1920، التنظير الرائد لما سيُسمَّى في ما بعد تيار «الصوريين»، وآخر لا يرى أي قيمة فيها. لكن مهما يكن من أمر، فإنها، بالتأكيد، دليل على أن موضوع الصورة كان يراود أفكار يسينين قبل أن يصبح أحد مؤسّسي حركة الصوريين الروس.
كان يسينين قد تعرَّف في موسكو إلى صديقَين هما أناضولي مارينغوف (1897 - 1962) وفاديم شيرشنفيتش (1893 - 1942). الأول شاعر ومسرحي وروائي. مشهور بعمله «رواية بلا أكاذيب» الذي يرسم صورة مفصلة للحياة الأدبية في مطلع عشرينيات القرن الماضي، والفترة البوهيمية التي أمضاها مع سيرغي يسينين. بات صديقاً حميماً ليسينين، عاشا معا لأشهر طويلة في شقة واحدة، وقد كتب يسينين قصائدَ ومطولاتٍ عديدةً مهداة إلى مارينغوف، لكن الرقابة في ما بعد حذفت اسمه من معظم الإهداءات عندما تم طبع أعمال يسينين رسمياً. كان كل واحد يُبدي رأيه بشعر الآخر بكل صدق وموضوعية. لم يشعر واحدهما بالغيرة من الآخر، ذلك لأنه كان لكل واحد ثيمته المختلفة عن الآخر: فثيمة مارينغوف المدينة، ويسنين سُهُب مقاطعة ريزان الممتدّة تحت زرقة السماء. لقد ساهم مارينغوف في كل نشاطات «الصوريين»، وشعره يتميّز بصور عنيفة بل «دموية»، وأحياناً تجديفية، أثارت احتجاجات حادة ضدّه. كقصيدته «مريم المجدلية» (1919) التي جاء فيها: «أيها المواطنون، غيّروا/ كَلْسونات نفوسكم/ أنا أيضاً، يا مريم المجدلية،/ سآتي إليك لابساً كلسوناً نظيفاً». عندما قرأها لينين، قال: «هذا صبي مريض»!
أما فاديم شيرشنيفتش فكان معروفاً في الوسط الأدبي أكثر من الاثنَين، فهو شاعر ومترجم بيانات مارينيتي المستقبلية، ولعب دوراً كبيراً في مجموعة «المستقبلية الأنوية»، وأيضاً في مجموعة «إهليا: المستقبلية التكعيبية»، لكن بعد أن توقفت المستقبلية كحركة متماسكة وباتت مجرّد تيارات متفرّعة في هذه المدينة وتلك، أخذ شيرشنيفتش يحارب المستقبلية متنصّلاً من كل ما كان يربطه بها. وذات مساء التقى بمارينغوف ويسينين، فأخذوا يتناقشون، حتى وقت متأخر من الليل، في مسألة تأسيس حركة شعرية جديدة متخلّصة من مبادئ المستقبلية وتركّز على مبدأ شعري أساسي هو الصورة. فانتهى اجتماعهم بإصدار «تصريح» نهاية كانون الثاني 1919، جاء فيه:
«نحن، حرفيي الفن الحقيقيين، الذين يُلمِّعون الصورة وينفضون غبار المضمون عن الشكل، أفضل من صبّاغي الأحذية في الشارع، نؤكد بأن قانون الفن الوحيد، طريقته الوحيدة التي لا نظير لها، هي تمثيل الحياة والتعبير عنها من خلال الصورة وإيقاع الصورة. أما، أنتم، فاسمعوا في إبداعاتنا شعر الصور الحر... الصورة ولا شيء آخر سوى الصورة. الصورة - متطوّرةً خطوة فخطوة من تماثلات، تناظرات، تشابهات، تعارضات، صفات دقيقة ومستخرجة، توسع ثيمات متعدّدة، بنية ذات مستويات عديدة - هي الأداة وراء إنتاج حرفي ماهر في الفن. أي عمل فني آخر ما هو إلا ملحق لجريدة «نوفا». الصورة فقط، كما النفتالين مبثوثة في ثنايا عمل فني، متخلّلة إياه، تنقذه من عثة الزمن. الصورة هي درع البيت الشعري. إنها درع اللوحة. ترسانة تحصين لمشهد مسرحي... أي مضمون في عمل فنّي هو مجرّد سخف وبلا معنى كقصاصات مقتطعة من الجرائد ولُصقت في لوحة. نحن ننادي بانفصال دقيق ومضبوط لفن عن آخر، نحن ندافع عن تمييز الفنون. فنحن لا نقترح وصف مدينةٍ، قريةٍ، حقبتِنا وحقبِ الماضي، فإن هذا يعود كلّه للمضمون، ولا يهمّنا، فالنقّاد سينتّفونه إلى نُبَذ ويحلّلونها. على الفنان أن يوصل ما يريد إيصاله، لكن عليه أن يقوم بمثل ذلك في الإيقاعات المعاصرة للصورة. نقول «معاصرة» لأننا لا نعرف إيقاعات الماضي؛ كوننا جهلاء في هذه المسألة، جهل الماضويين ذوي الشعر الأشيب».
ويعتبر شيرشنيفتش منظّر الحركة الأساسي. فهو الذي كتب كل بياناتها... وقد أوضح ماهيتها في كتابه النظري الأساسي «2×2=5» قائلاً: «يجب على الاسم أن يتنعّم برتبة متميّزة على أجزاء الكلام الأخرى، لأنه في الاسم تكمن الصورة بالضبط في نقاوتها الأصلية. ذلك أن الصورة تكمن في جذر الكلمة، بينما اللواحق والبودائ التي تضاف إلى الكلمة هي مجرّد علامة الاشتقاق العقلاني... في روسيا صورة الكلمة تكمن عادة في جذر الكلمة والنهاية القواعدية تذكّر فقط بالرغوة التي تتكسّر على صخرة». من هنا جهر الصوريون بشعارهم: «يسقط الفعل! عاش الاسم!» ذلك لأنه يرى أن «الصفات، الأفعال، والظروف تخضع لمنطق النحو أكثر من الأسماء. فالوظيفة النحوية للواحق التركيبية تجنح إلى اكتساح خاصية الجذر الباعثة ومحوها. لذا فهي أقل تأثيراً من الأسماء في إيصال صورة».
بالنسبة إلى الصوريين، كما يقول شيرشنيفتش، «يجب على الاسم أن يتنعّم برتبة متميّزة على أجزاء الكلام الأخرى، لأنه في الاسم تكمن الصورة بالضبط في نقاوتها الأصلية. ذلك أن الصورة تكمن في جذر الكلمة، بينما ما يُضاف من لواحق وبوادئ على الكلمة ما هو سوى مجرّد علامة الاشتقاق العقلاني... إن صورة الكلمة، في روسيا، تكمن عادة في جذر الكلمة... والنهاية القواعدية تذكّر فقط بالرغوة التي تتكسّر على صخرة». وتصوّر إيفان غروزينوف وهو أحد أعضاء الحركة، في العدد الثالث من مجلتهم، «الصورية كمحاولة ثورية لتوليف إبداعي بين اللغة الأدبية واللغة الشعبية... لقد أسّس انضمام الكلمات التجديفي في الأعمال الصورية، ثورةً شعرية لفظية ضد كل الجمالية السائدة بكل قيمها الدينية والأخلاقية». ويعتقد مارينغوف بأن الكلمات ولدت من جوف الصورة. وبالتالي فإن لكل كلمة أساساً إيقاعياً ومجازياً، والصورة في الشعر تمثّل كلاً، هذا إذا كان توترها وتوتر التقلّب الإيقاعي في أي سياق شعري، متناغمَين. ولذا فإن الشعر الحر هو الأكثر تلائماً وضرورة لتحولات الشعر الصوري المجازية الحادة... ذلك لأن الشكل في الفن هو وحدة البدن والنفس. من دون هذه الوحدة، ما من عمل فني يكون ممكناً». إذاً، إذا كانت الصورة بالنسبة إلى الرمزيين واسطة للتأمُّل، وللمستقبليين وسيلة لتقوية الانطباع الصوري، فإنها، بالنسبة إلى الصوريين، غاية في ذاتها.
لقد رافقت بياناتهم، مجموعة من القصائد كنماذج للتيار الصوري: «سأجعل السماء تجهض/ وأعصر حليباً من أثداء القمر» (مارينغوف)، «بعض الناس يحتاجون إلى شهرة وملاعق فضية/ لكن كل ما أحتاجه أنا هو لقمةُ حُبّ/ وعلبةُ فيها عشرون سيجارة» (شيرشنيفتش)، «كلّابات الفجر في السماء/ تقلع النجوم وكأنها أسنان/ من فم الظلام» (سيرغي يسنين)! وذاع صيتهم كشعراء صاخبين وزعران ضدّ الكنيسة والدولة، ويدعون إلى فن شعري معاكس لما كان يدعو إليه كتّاب البروليتاريا... فأصبحوا عرضة للنقد في منابر البروليتاريا، مما اضطر شيرشنيفتش إلى الردّ عليهم بعبارات متجاوزة: «نرى الدولة تُعاضد «شعراء البروليتاريا» الذين لم ينتجوا أي إنجاز لا في مجال الشكل ولا في مجال الأيديولوجيا. إنهم بكل بساطة لا يعرفون الكتابة ويكرّرون باستمرار شعر ألف باء الاشتراكية البالي. نحن، الصوريين - مجموعة الفن الفوضوي - لم نركع أبداً أمام الدولة. ولحسن الحظ أن الدولة لا تعترف بنا. وها نحن نُصرِّح علناً: فلتسقط الدولة. عاش انفصال الدولة عن الفن. وهذه هي شعاراتنا: عاشت دكتاتورية المخيّلة!/ وليسقط النقاد المضاربون في الفن بقراءة البخت».
الشاعر الوحيد الذي استطاع فعلاً إعطاء تراث شعري صوري بكل معنى الحركة، هو سيرغي يسنين. فقد كتب نماذجَ تعبّر بشكل أعمق وأصفى عمّا هو الشعر الصوري، خصوصاً في ديوانه «موسكو المقاهي» و«الرجل الأسود»، أو «اعتراف أزعر» التي فيها من الحنين إلى قريته البعيدة وذكريات طفولته، بقدر ما فيها من التشبّث بالمدينة حيث يوجد المعجبون بأشعاره، ويستطيع أن يشرب الخمر قدر ما يشاء ويرتكب الزعرنة أنى شاء: «أتقصّد الذهاب بشَعر غير مُمشَّط/ رأسي أشبه بسراج على كتفي/ أحبُّ أن أُضيء في العتمة/ خريفَ نفوسكم العاري من الأوراق/ أحبُّ أن تتطاير أحجار الشتائم/ نحوي، كبَرَدٍ تجشّأه الإعصار./ فأكبس بقوّة بين أصابعي/ على فقاعة شَعري المتأرجحة». غير أن يسينين ابتعد عن الصورية قبل انتحاره بعامَين، مؤمناً بأن الصورة هي وسيلة فقط وليست، كما ظل يراها مارينغوف وشيرشنيفتش، غاية في ذاتها حيث لا أهمية للمضمون. وقد توقّف نشاط الحركة بعد انتحار يسينين، بل توقفت نهائياً الحركة نفسها عام 1927 فاضطروا إلى ممارسة نشاطاتهم الأدبية من دون أي إشارة إلى الصورية التي أصبحت محظورة في فترة تصاعد الواقعية الاشتراكية مذهباً أدبياً شمولياً. فلم يعد لمارينغوف فرصة سوى أن يواصل حياته ككاتب مذكرات ومن وقت إلى آخر، مسرحيات، إلى أن وافته المنية عام 1962. وفي عام 1926، نشر شيرشفينتش كتاباً عنوانه «إذاً الخُلاصة»، أعلن فيه بأن «الصورية قد ماتت... والشعر أصبح سجالاً. إذ نزعوا عنه الغنائية، وشعر بلا غنائية هو جيّد جودة حصان أصيل بلا ساق. فشل الصورية مفهوم، بما أنها ألحَّت كثيراً على شعرنة الشعر»!
لقد استطاعت الحركة إصدار ما يقارب 30 كتاباً تحت يافطة «الصوريين» ومجلة صدر منها أربعة أعداد. وتسمية «الصوريون» في الواقع مشتقة من فعل «تصوَّر» (imagine)، لكن الاشتقاق الروسي «imazinisty» لا يُضمر معنى «التصوريون»، وإنما يفيد: «الصوريون»، وما الاستخدام الإنكليزي «imaginists» سوى محاولة لتمييز هذا التيار الروسي عن تيّار عزرا باوند والصوريين الإنكليز «imagism». ومع أن هناك دليلاً - يمكن أخذه كبرهان على أن الروس أخذوا المصطلح من الإنكليز - وهو المقابلة التي نُشرت عام 1915 مع عزرا باوند في مجلة «النبّال» الصادرة في موسكو، والتي حدّد فيها معنى الصورية، إلا أنه ليس ثمة دليل على تأثير مباشر بالصورية الإنكليزية أو الأميركية. وذلك لسبب جد بسيط، ألا وهو أن معظم تنظيرات شيرشنيفيتش تكاد تكون صدى لما جاء في بيانات مارينيتي. فمثلاً يُعرِّف شيرشنيفتش «الصورية على أنها تحويل الماء العكر إلى نبيذ شعري، لأنها تكشف عن الأسماء المستعارة للأشياء». فهذا عين ما كتبه مارينتي في بيانه «تدمير علم النحو»: «ها أنا أعلن بأن الغنائية هي... حاسة تغيير ماء الحياة العكر الذي يدوّم ويبتلعنا، إلى نبيذ. إنها القدرة على تلوين العالم بألوان فريدة هي ألوان نفوسنا المتغيّرة». كما أن تأكيد الصوريين الروس على أهمية الصورة لهو مفهوم نابع من فكرة مارينيتي: «سلسلة غير متقطعة من الصور». ناهيك عن أن يسينين لا يقرأ الإنكليزية ولا أيّ لغة أخرى، ولم تكن، آنذاك، ثمة ترجمة روسية للأشعار الصورية الإنكليزية. كما أن الدعوة الصورية الروسية إلى عدم استخدام الصفات والأفعال، وإلى الاعتماد على ضمير الاسم، لم تكن أبداً جزءاً من مشروع الصورية الإنكليزية، وإنما هي عين ما كانت تدعو إليه المستقبلية الإيطالية. وأخيراً، فإن الصورية الإنكليزية هي نفسها انبثقت من حركة ويندهام لويس «vortex» (الدوّامة المائية) التي مع أن أسلوبها نشأ عن التكعيبية، إلا أن «الدوّامة» هذه التي قادت إلى ظهور «الصورية» في إنكلترا، حركةٌ وشيجة الصلة بالمستقبلية، بل يمكن تسميتها «المستقبلية على الطريقة الإنكليزية».
«الغاوون»، العدد 45، 10 كانون الأول 2011