لا اعرف الى اي حد سيصبح من الخطورة التطرق الى الاعمال الفنية النحتية وابداء الاعجاب واعتبارها ارثا ثقافيا حضاريا ينبغي المحافظة عليه، وخصوصا تلك التي نحتت على شكل بشر، في ظل وجود تسمية رديفة لها (اصنام) لدى كل من يقف موقفا نقديا مناهضا حد التطرف من الفن بمعناه الواسع، رغم ذلك وجدته مثيرا وجديرا بالبحث، موضوع الاعمال الفنية لمنحوتات المجسمات والشخصيات التي لا يخلو شارع في العالم الاول الى الثالث منها مع اختلاف موضوعها.
لا اتقاطع هنا مع اشكالية مواقف المتطرفين من الاعمال الفنية النحتية، بل اذهب جهة دلالتها انسانيا كمقياس لتصنيف الدول من حيث كونها عالما اولا ام ثالثا او ربما خارج التصنيف، واقول تصنيف الدول لئلا اقول تصنيف الشعوب، ستصادف في السفر ثلاث دلالات رئيسية شديدة الوضوح للتمييز هل انت في العالم الاول او العالم الثالث؟ فما ان تطأ الارض وتذهب في طرقات المدن، حتى تلاحظ بجلاء حجم انتشار العساكر في المشهد اليومي للمدينة ثم الاجراءات الامنية بين الحدود، وكلاهما دلالتان ليستا موضوع الاهتمام هنا رغم خطورتهما.
النصب التذكارية والاعمال الفنية النحتية في الشارع هي الدلالة الاهم، سترحب بك وستبوح لك بالحقيقة وستقول لك بصوت واضح ومسموع في اي عالم انت، فما ان تشيح وجهك في افق المدينة وترى الشاعر شامخ في ميدانها والمثقف المفكر يعتنى بحمام الساحة المطلة على النهر ودون ان يكون هناك مايعكر صفو الناس وانهماكهم بصياغة الحياة حينها عليك ان تثق بانك في العالم الاول.
اما اذا وجدت السياسيين بنظراتهم الغاضبة (في المطلق) واياديهم الممدودة تقف عند كل نهاية طريق، والزعيم السياسي يرحب بك بابتسامة مدججة بالتعالي في باحة رخامية والمياه تنحني له في نافورة صامتة لجفاف شاعرية مائها فكن حذرا فانت في العالم الثالث دون شك.
سينتابني الاستغراب دائما كلما صرت امام هذه المفارقة المحزنة، فبرغم ان اي دولة او شعب يصنف ضمن العالم الثالث او العالم الاول فان ذلك يأتي نتيجة لحسن او سوء ادارة السياسيين للدولة ومقدراتها، ما يعني ان من يصنف عالما اولا يكون السياسيين فيه قد نجحو بما يؤهل لتصنيف دولهم كعالم اول رغم ذلك تكون النصب التذكارية والمنحوتات في الشوارع في غالبيتها لشخصيات ثقافية وابداعية وفكرية وليس سياسية.
اما العالم الثالث والفشل المتكرر للسياسيين فيه فانك لن تجد لسواهم نصب وتماثيل ومنحوتات في الشوارع والميادين، ما المعنى الحضاري لهذه الحقيقة التي نراها بالعين المجردة؟ هل هذا يفسر هروب النحاتين والفنانين من فلورنسا بإيطاليا في نهاية القرن الخامس عشر حينما حكمها حاكما متسلطا، وبعد عزلة اثر حكم لم يدم اكثر من خمس سنوات عادوا الى فلورنسا وعاد معهم الفنان الاشهر (ديفيد ميكلانجلو) لينحت اهم واكبر نصب تذكاري لشخصية اسطورية اطلق عليها (عملاق ميكلانجلو) رغم انها في البداية اريد لها من قبل الكنيسة ان تكون نحتا يعبر عن (النبي داوود)، الا ان ميكلانجلو عبر بها عن القوة والابداع ليكون هذا العمل الفني احد اهم علامات عصر النهضة الاوروبية التي وقفت لمدة ثلاثة قرون في قلب فلورنسا مدينة الفن في اوروبا والتي لا يزال يفتخر بها الايطاليون وفي مقدمتهم السياسيين باعتبار هذا العمل الجبار احد عناصر حضارة ايطاليا بصورة خاصة واوروبا بصورة عامة... واستمرارها.
اوروبا بوصفها تجربة النهضة الناجحة عالميا كان احد اهم اعمدة نجاحها قناعة شعوبها وانظمتها بان الجمال والابداع هما العنصرين الهامين بين العناصر التي يجب التعويل عليها في تحقيق ديمومة الازدهار الانساني في دولهم، قبل ان يكون الجمال والابداع دلالتا التحضر والتقدم وهذا ما يفسر الاهتمام بالثقافة والتاريخ الى حد ان او ملاحظات الشخص في تلك الدول هو وجود منحوتات لشخصيات المبدعين والفنانين في شوارعها قبل اي شيء فتترسخ لدى الشعوب هناك اهمية الثقافة وقيم الابداع لتأتي النهضة بكل معانيها العميقة ووقوفها في الصف الاول من تحضر الانسانية على مختلف الاصعدة كنتيجة حتمية.. بينما العالم الثالث لايزال لا يثق في النهضة الاوروبية ولا يحفل بالمبدعين ويمجد كل من يحافظ على ملامح كونه عالما ثالثا، فالثالث افضل من الرابع وان لم يكن موجودا في التصنيف...