حين يكون المرء قد أمضى ثلاثين عاما في المنفى لا يعود ثمة فارق كبير بين الليل والنهار. يفقد الليل وظيفته المألوفة كزمن للنوم، مثلما يتخلى النهار عن دعوتنا الى العمل. وفي بلد مثل ألمانيا التي أعيش فيها ليس ثمة أساساً ليل ونهار، في المعنى الذي يعرفه الجميع، فأنت هنا قد تفني عمرك كله بدون أن ترى شروق الشمس او تتأمل غروبها. في شهور الشتاء الطويلة لا يستمر النهار هنا سوى بضع ساعات، وهو نهار يبدأ بالظلام وينتهي به أيضا. نهار عابر لا يكاد يكفي لفعل أي شيء. لا تكاد تضرب موعدا مع صديق او صديقة في المقهى نهارا حتى تجد نفسك في الليل.
في ماضيَّ العراقي الذي خلفته ورائي في الشرق، وهو شرق تحول عندي الآن الى ما يشبه الحلم او الخرافة، كان يمكنني أن أخرج الى الشارع وأسير تحت الشمس، لأفكر في ما يمكن أن أفعله بنفسي. اما الآن فعليَّ أن أفتح نافذة غرفتي وأحدق بالعتمة. في البداية، حين كنت لا أزال أعتقد أن العالم على ما يرام، كثيرا ما كنت أخرج لأسير فوق الثلج بحذاء الشتاء. كان بياض الثلج الساطع يغريني بالنزهة، ملتفا بمعطفي الفرو، قبل أن أجلس في مقهى دافىء قريب وأحدق في الأشجار مزدهية ومضيئة في الثلج، حتى دفعت الثمن غاليا قبل عامين حين وجدت نفسي أطير في الهواء فجأة لأمضي ستة أسابيع في المستشفى. بعدها حُرمت من هذه المتعة أيضا. في كل عام يدخل المئات من الناس المستشفى في المانيا، بسبب الإنزلاق على الجليد.
ولكن ماذا يمكن المرء أن يفعل حين تكون مثل هذه الشهور طويلة حتى لكأنها بلا نهاية؟ ليس ثمة بد من البقاء في البيت في انتظار الربيع، وهذا ما أفعله غالبا. في البداية كنت أشعر بالأسى، ثم ألفت الأمر حتى أصبحت العزلة متعة، لا يكدرها سوى صدى العالم في الخارج. بالطبع، فان هذه العزلة لا تشبه تلك العزلة التي كان يلجأ اليها القديسون والأنبياء في غابر الزمن. فلا تكاد تفتح المذياع او التلفزيون او الأنترنت حتى تجد نفسك في قلب العاصفة. كل المصائب تحصل على بعد خطوات منك. قنابل تنفجر هنا وهناك وترى القتلى ينزفون في بيتك. خبر عن أم قتلت أولادها الستة. سياسيون يكذبون بالجملة وأعاصير تقتل الآلاف. في الماضي، حين كان المرء لا يزال يعيش في قريته او مدينته الصغيرة، كان يمكنه أن يعيش خالي البال سنين طويلة، لا علاقة له الا بالناس القريبين منه. ولم يكن أحد من هؤلاء ليموت الا بعد لأي او بضربة من القدر. حينذاك كنا نشكو من الملل، أما الآن فليس لنا سوى الإنصات الى عصفور ت. س. اليوت المنذر في "الرباعيات الأربع"، مزقزقا: "اذهبوا، اذهبوا، فالجنس البشري لا يستطيع أن يتحمل كل هذا القدر الكبير من الواقع". وهكذا، لكي أواسي نفسي على تحمل مصائب العالم أفكر في مقالة لألبر كامو يتحدث فيها عن حكيم شرقي كان يصلي الى الله ليدخر حياته الى زمن مثير آخر يعيشه. ماذا يمكن أن أطلب من الله أكثر من هذا الزمن المثير حتى القتل؟
ذات مرة كنت أسير في أحد شوارع مدينة بريمن مع الهولندية هاخر بيتيرس، وهي شاعرة شابة مبدعة حقق ديوانها الأول أعلى المبيعات، عندما التفتت اليَّ قائلة: "أحسدك لكونك من بلد ضاجّ بالمشكلات. هناك الكثير الذي يمكن أن تكتب عنه. في بلد مثل هولندا لا يكاد يوجد ما يستحق الكتابة عنه". وهذا هو تقريبا ما قاله سلمان رشدي في لقاء معه قبل شهور: "من حظ الكاتب أن يعيش في أزمنة مضطربة مثل أزمنتنا هذه".
ربما كان ذلك كله صحيحا، اذا اعتبرت نفسك مجرد متفرج او مراقب في الحفلة، كما يفعل الكاتب الغربي، أما حينما تدفع ثمن ذلك كله بأعصابك فالأمر يكفّ عن أن يكون موضوعا محايدا ومسليا يمكن أن ترصده عن بعد، لأنه سيدخل في حياتك مثل ورم يفتك بك بلا رحمة. لا يشكل المنفى بالنسبة إليّ مشكلة تتعلق بالحنين او ما يشبه ذلك من العواطف، بقدر ما يتعلق بمعنى وجودي ذاته. فقد اعتبرت المنفى دائما مكتبا أعمل فيه بحرية. المشكلة هي انك لا تكون هنا ولا هناك. تنتمي الى الهنا والهناك بالقدر نفسه الذي ترفضهما او تنفصل عنهما، مثلما ينتميان هما أيضا اليك ويرفضانك في آن واحد. في مثل هذه المنطقة الحرجة من انعدام الوزن، تصبح الكتابة وحدها المنقذ في الطريق الذي تكون قد أرغمت على السير فيه بعدما بلغت النقطة التي لا رجعة بعدها، على حد تعبير نيتشه.
كل حياتي تقريبا مكرسة للكتابة، حتى بدون أن أعرف ان كان ذلك يعني شيئا. أستيقظ لأكتب، وحين أعجز عن الكتابة، وهذا أمر غالبا ما يحصل لي، أجدد نفسي وربما حياتي بالقراءة. شقتي مليئة بآلاف الكتب التي لا أعرف اين أضعها. تحت سريري على الأرض تتراكم عشرات الكتب الجديدة والقديمة بمختلف اللغات، الانكليزية والألمانية والعربية. أقرأ كثيرا في الليل والنهار. ويصعب عليَّ النوم إن لم أقرأ حتى الانهاك. قراءاتي باللغة العربية أصبحت نادرة جدا الآن. لا أقرأ الا لبعض الأصدقاء القلائل. وفي مقابل الألمانية التي كانت طاغية على قراءاتي في الأعوام الأولى من المنفى، صارت الانكليزية هي الطاغية منذ عشر سنين على الأقل. أكتب بين الحين والآخر مقالات باللغة الألمانية، مثلما نشرت الكثير من القصائد المترجمة اليها. لكن معظم ما أكتبه الآن صار باللغة الانكليزية. أنهيت أخيراً عملا بين الرواية والشعر باللغة الانكليزية (نشرت مجلة "بانيبال" ثلاثة فصول منه). أعمل الآن في اعادة كتابة بعض أجزائه.
لا أقرأ في العادة كتابا واحدا وانما دائما مجموعة من الكتب دفعة واحدة. أمامي الآن ثلاث روايات لصديقي الروائي الألماني توماس لير الذي برز حديثاً بروايته الساحرة "قطة نابوكوف" والتي أعقبها الآن برواية مثيرة بلغتها وبنائها "42" عن الزمن، بعد رواية له عنوانها "ربيع". كما أقرأ في ديوان للشاعر الأميركي شاون غريفين الذي التقيته قبل شهر في بلفاست بعنوان "سباحة في نهر الرماد" ومجموعة قصائد نثر عنوانها "قاتل في الظلام" للكاتبة والشاعرة الكندية الكبيرة مارغريت أتوود التي التقيتها هي الأخرى قبل أقل من عام في مهرجان اولدبره الشعري العالمي، ثم ثانية قبل أشهر قليلة في مهرجان نيويورك.
اني كاتب عربي بالطبع ولا أطمح بأكثر من ذلك. أما الكتابة بالألمانية او الانكليزية فجزء من دفاعي عن نفسي ككاتب. فلولا أعمالي المنشورة باللغات الأخرى لمتّ منذ زمن طويل من اليأس. انها بابي على العالم. لقد منحتني على الأقل فرصة السفر الى الكثير من البلدان والإلتقاء بالعشرات من كبار شعراء العالم وكتّابه.
في ذاكرة الصحراء العربية التي تزداد ظلاما مع الزمن، ليس ثمة سوى الريح تمسح كل أثر يتركه الشاعر في الرمل، حتى ليخيل لي أحيانا أني ظللت طوال حياتي أكتب للأشباح.
الليل في الخارج. غرفتي مليئة بالدخان. أنهض وأفتح النافذة، لأطرد الهواء الفاسد.
أبدأ نهاري بسيجارة وأنهي ليلي بسيجارة أيضا. ليس ثمة ما يدعو الى الشكوى. شكرا لله، أقول لنفسي، ما زلت قادرا على الكتابة.